خطر يهدد العائلات اللبنانية ...آفة "القمار أونلاين" تتفاقم
عندما خاضت إدارة كازينو لبنان معركة إطلاق ألعاب القمار والمراهنات عبر الإنترنت، كان حجم الأرباح السنوية للقمار «أونلاين» غير الشرعي يُقدّر بما لا يقلّ عن 700 مليون دولار، فيما لا تتعدّى أرباح الكازينو من الألعاب الأرضية الـ300 مليون دولار. تحت شعار «شرعنة» هذا القطاع، وإدخال مردود مالي كبير إلى خزينة الدولة، وافقت وزارة المالية على تقديم الكازينو خدمة القمار والمراهنات عبر الإنترنت. غير أن الموافقة خلت من أي شروط تضبط السوق غير الشرعي، ولم تترافق مع تشريع نص قانوني ينظّم القطاع، ويخفّف من مآسيه الاجتماعية ومضارّه على الاقتصاد. جلّ ما حصل أن الدولة، ممثّلة بالكازينو، وعبر صفقة مشبوهة يتم التحقيق في ملابساتها، بدأت منح تراخيص لمكاتب مراهنات غير شرعية لتعمل لمصلحة الكازينو مقابل حصة تصل إلى 22% من الأرباح الشهرية، مع توفير حصانة لأصحاب المكاتب ومشغّليهم أمام القضاء بموجب العقود الموقّعة مع الكازينو، رغم أنّ 80% من نشاطهم لا تزال غير شرعية.
ظهرت مواقع ألعاب الميسر والمراهنات الرياضية «أونلاين» للمرّة الأولى في العالم منتصف تسعينيات القرن الماضي، وسمحت للاعبين بالالتفاف على القوانين المنظّمة للألعاب الأرضية حصراً، إلى أن أقرت سلطات بعض الدول تشريعات حديثة قضت على السوق غير الشرعي للقمار. في لبنان، بدأت الألعاب والمراهنات الإلكترونية بالانتشار قبل نحو 15 عاماً، من دون أن يحرّك المشرّع اللبناني ساكناً، أو يقرّ أي نصّ قانوني حول الميسر والمراهنات عبر الإنترنت. وخلال فترة الحظر التي فرضتها جائحة «كورونا»، سجّل هذا السوق قفزة نوعية مع ازدهار مواقع القمار كواحدة من وسائل كسر الملل. ومع تفاقم الانهيار المالي، لجأ إليها كثر كـ«خشبة خلاصٍ» من الأزمات. فانتقل الكازينو إلى داخل كل منزل على شكل تطبيقٍ متاحٍ لكل من يملك هاتفاً ذكياً. معه لا حاجة إلى ارتداء بِزّة رسمية، ويمكن اللعب براحة بعيداً عن الأعين.
هذه المرونة، ضاعفت أعداد اللاعبين «أونلاين». والقطاع الذي قُدّرت أرباحه عام 2019 بأكثر من نصف مليار دولار سنوياً، وفق متخصّصين، ارتفعت إلى حوالي 700 مليون دولار. فيما تعيش الشركات المشغّلة له في «جنّة ضريبية»، إذ لا تسدد أيّ ضريبة للدولة. والأمر نفسه ينطبق على «الوسطاء» و«المندوبين»، ووظيفة هؤلاء تأمين الزبائن للشركات. الجميع في هذا الكار «أرباحه مضمونة»، ما فتح عينَي رئيس مجلس إدارة كازينو لبنان رولان خوري عليه. فعمد إلى توقيع عقد مع شركة «OSS» المشغّلة لألعاب الميسر عبر الإنترنت، وجرى خلق تطبيق اسمه BetArabia يوفّر ألعاب المقامرة والمراهنة «الشرعية»... من دون أن يقضي بالتأكيد على السوق غير الشرعي.
صاحب»OSS»، جاد غاريوس، ملقّب بـ«ملك السوق السوداء». وسبق لمكتب الجرائم المعلوماتية أن أوقفه عام 2017، على خلفية تنظيمه لألعاب القمار غير الشرعية. وبحسب مرجع قضائي، فإن غاريوس «أصبح الآن في مأمن في حال كان نشاطه غير الشرعي لا يزال قائماً، نظراً إلى صعوبة التمييز بين ما هو شرعي وما هو مخالف». وكحال غاريوس، هناك «ملوك» و«أباطرة» كثر، كل في منطقته، باتوا في مأمن بعدما وقّعوا عقوداً رسمية، ورُخّصت شركاتهم ومكاتبهم ووسطاؤهم ومندوبوهم، وفي مقدم هؤلاء مصطفى الخليل، أحد أبرز الأسماء في عالم المقامرة الإلكترونية على صعيد لبنان، والمعروف بـ«إمبراطور الضاحية الجنوبية»، رغم أن نفوذه يتخطّى حدودها. مصطفى وأفراد من عائلته يعملون في سوق المضاربة على العملة، ويديرون شركة للمراهنات تستأجر مواقع اللعب من شركات قبرصية وتركية، وتشتري منها «الفِيَش»، وتوزّع اشتراكات على عدد من مكاتب المراهنات والمندوبين في الضاحية وخارجها وتمنحهم إمكانية الولوج إلى المواقع (access)، لينشئ هؤلاء بدورهم حسابات (account) للزبائن، لتبدأ المغامرة بعد «تشريج» الحساب بوحدات تسمى «تراي» يشتريها المراهن. وقد تحوّلت شركة الخليل إلى مركز أساسي للتوزيع، وتصل نسبة أرباح الوسطاء المتعاملين معها إلى 50% من مجمل الربح الشهري، أي مجمل الخسائر التي يتكبّدها اللاعبون.
وكما غاريوس والخليل، يتقاسم «ديوك» الكار المناطق والأحياء تحت أعين القوى الأمنية. في الضاحية الجنوبية، مثلاً، لا يكاد يخلو حيّ من مكتب مراهنات، وتأخذ غالبيتها شكل مقاهٍ يقصدها شبان المنطقة، يسيطر «الزيعور» على شارع عبد النور، وح. م. على الرويس، وم. م. على المعمورة، وإ. م. في عين الرمانة. ومع سهولة المراهنة والمقامرة «أونلاين» ازداد الإقبال، فزادت حكماً أعداد المدمنين، وهو ما يشير إليه انتشار قصص كثيرة، أخيراً، عن مآسٍ لمدمنين من بيع ممتلكات ومصاغ الزوجة أو الأم، إلى السرقة والانتحار. كما أن حجم الأموال التي تسجّلها مكاتب المراهنات في قرى صغيرة يشير إلى حجم التورّط. أحد هذه المكاتب في قرية جنوبية صغيرة، بحسب مصادر متابعة، يسجّل أرقاماً تصل إلى 130 ألف دولار شهرياً.
الملاحقة غير ممكنة
المؤكّد، أنّ الشبكات «كثيرة ومخيفة» وفق مصدر أمني، مشيراً إلى مكتب مراهنات أساسي في مدينة صور، صاحبه محسوب على قوة سياسية نافذة، يوزّع الاشتراكات عبر وسطاء على قرى القضاء. وكذلك الأمر في النبطية والخيام وبلدات جنوبية عدة. «الأجهزة الأمنية تملك من المعلومات ما يكفي لتنفيذ مداهمات»، وفق المصدر نفسه. مع ذلك لم تشهد بيروت أو ضواحيها أو أيّ من القرى والبلدات في كل المناطق حملةً على أوكار المراهنات، وكأن لا قرار بخوض حرب ضدها. ويوضح مرجع قضائي أن المداهمات القليلة في الآونة الأخيرة، نفّذها مخفر حبيش أو مكتب مكافحة القمار التابع لوزارة الداخلية، وهي طاولت أصحاب المكاتب، لأن القانون اللبناني لا يجرّم ممارسة اللعب، بل يجرّم تنظيمه في ظل منح الحصرية في ذلك لكازينو لبنان، إذ يحدّد القانون عقوبة لمن يتولّى فتح «بيوت القمار»، إلا أن المشرّع لم يطوّر النص تماشياً مع تطور التكنولوجيا، وبالتالي لا يوجد نصّ صريح يتناول هذا النوع من المقامرة لجهة العقوبة أو التنظيم. لذلك، العقوبة لا تُنفّذ بحقّ العاملين في المراهنات لسببين: «في المبدأ لا يُعاقَبون بسبب غياب النص القانوني، وبات الأمر أكثر صعوبة مع استحصالهم على ترخيص للعمل مع (BetArabia) أي كازينو لبنان، إلى جانب عملهم غير الشرعي، فلم تعد هناك قدرة على كبح انتشارهم»، مشيراً إلى أن أي عملية توقيف لأي من أصحاب المكاتب «تنتهي بتوقيع تعهّد بعد ساعات من التحقيق، يخرج بعدها ليعاود الموقوف نشاطه».
الخطورة في ممارسة القمار الإلكتروني، بغياب النص القانوني والرقابة، انتشاره بين القاصرين، خصوصاً أنّ المنظّمين يعمدون إلى استدراجهم عبر الألعاب المجّانية على مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن ينتقلوا إلى اللعب الفعلي.
أبعد من ذلك، يُعدّ هذا العالم، ملعباً لتبييض الأموال، ويمكن بسهولة استغلاله في التعامل مع جهات إرهابية أو تجنيد عملاء. على سبيل المثال، يمكن لأيّ لاعب من أي بلد أن يلعب ضد آخر في لبنان ويتعمّد الخسارة أمامه، لتبرير نقل الأموال من الشركة المشغّلة (أو مجنِّد العملاء) إلى اللاعب الموجود في لبنان، عبر حسابٍ مصرفي أو بواسطة شركات تحويل الأموال، بطريقة لا تثير ريبة الأجهزة الأمنية.
كذلك، يُجمع معنيون على أنّ عدداً من الشركات المشغّلة تبيع «داتا» اللاعبين بأسعارٍ باهظة إلى جهات تملك مواقع حديثة تريد تفعيلها، فتعمد الأخيرة إلى إرسال إعلاناتها الترويجية إلى هواتف اللاعبين أو بريدهم الإلكتروني.
لذلك كله لا بدّ من قانون، إذ إن هناك «قاعدة» تطبّقها غالبية دول العالم: إمّا المنع التام لكل ألعاب الحظ، وهذا غير ممكن في الدول «الديمقراطية»، أو الترخيص لمشغّلين بإدارة القطاع وفق قوانين وتحت إشراف هيئة ناظمة.
بناءً على ما تقدّم، يعتبر الدكتور في ألعاب الميسر في القانون المحامي عماد نحاس أنّه يقتضي ملء الفراغ القانوني في لبنان، عبر سنّ تشريع يُخضع هذا القطاع لنظام ضرائبي قاسٍ، ويفرض توظيف قسم من الأرباح في قطاعات مفيدة للمجتمع والاقتصاد، تعويضاً عن الأضرار الجسيمة لألعاب القمار، كدعم موازنات وزارات الشباب والرياضة والشؤون الاجتماعية وغيرهما أو مراكز معالجة الإدمان...
في السنوات الماضية، عمل نحاس على إعداد مشاريع قوانين عرضها على جهاتٍ سياسية، لكنها بقيت من دون تبنٍّ، وهي تعتمد أساساً على وضع حدّ للعب القاصرين، بإجبار الشركات على اعتماد نظام صارم يتيح التأكد من عمر اللاعب، وكذلك وضع حدّ للعب المدمنين بواسطة آليات منع وتحديد سقوف لكل لاعب، إضافة إلى ضمان حصول اللاعب الذي يربح على أمواله، وحماية «الداتا»، والتأكد من خلوّ المراهنات من نقل مموّه للأموال، عبر استحداث نظام مراقبة يتيح مراقبة المراهنات المشبوهة.
التمييز بين الألعاب السريعة وتلك البطيئة وبين الألعاب التي تعتمد حصراً على الحظ وتلك المختلطة ثابت علمياً، وهذا ما قد دفع أخيراً المشترعَ الفرنسي إلى حظر الألعاب السريعة والمعتمدة حصراً على الحظ عن الإنترنت. ويميّز المتخصّصون في المجال بين ما يُسمى الألعاب السريعة التي تولّد الإدمان، والمراهنات الرياضية الأقل خطورة.
فالأولى تشكل خطراً لأن سرعة حسم اللعبة تتيح للاعب تجربة حظّه من جديد خلال ثوانٍ كما هي الحال في الروليت، والـmachines Slot، ما قد يدفع اللاعب المأخوذ بالحماسة إلى المقامرة بما يفوق طاقته على الخسارة. في حين أن المراهنات على نتائج المباريات الرياضية، ولكون المباريات تُجرى في أوقات محددة وتطول مدة حسم نتائجها، فهي لا تولّد إدماناً بالنسبة عينها كما في ألعاب القمار السريعة. كما أن المراهنات الرياضية تُعتبر من الألعاب المختلطة، إذ لا تعتمد فقط على الحظ كالروليت، وإنما يدخل فيها عنصر المعرفة، في حين أن الرهان على الحظ في أي لحظة لا يجعل اللاعب ييأس من لعبة الروليت، يمكن لمن يراهن على النتائج الرياضية التخفيف من رهاناته إذا وجد نفسه جاهلاً بالرياضة التي يراهن عليها.
شرعي VS غير شرعي
بحسب صاحب أحد المكاتب، يقصد مكاتب المراهنات في العادة من لا يملكون بطاقات مصرفية، ومن لا يجيدون استخدام الهاتف الذكي، وعدد أقل يفضّلون عدم استخدام بطاقاتهم حرصاً على السرية. هذه الفئة الأخيرة، أيضاً، تتجنّب دخول تطبيق «BetArabia» لأن إنشاء الحساب يتم باسم الشخص. وفي العموم، جاء انهيار القطاع المصرفي لمصلحة المكاتب التي بات الزبائن يقصدونها لتشريج حساباتهم أو لتقاضي أرباحهم «كاش».
ويوضح أن زبائن «BetArabia» هم من «كبار المغتربين ممن يحملون بطاقات مصرفية دولية وحسابات بالفريش دولار». كذلك، جذب التطبيق اللاعبين الراغبين بالتعامل مع مواقع معروفة ومرخّصة، لا عشوائية خالية من أي ضمانة حول صحة اللعب أو تسديد حقوق اللاعب الرابح.
بالنتيجة، لم يكافح الكازينو القمار غير الشرعي، بل أخذ نسبةً من سوقه، وجذب أفراداً جدداً كانوا خارج هذا العالم عندما كان حكراً على السوق السوداء. وسهّل الأمر للحذرين ولمن لا يملكون حسابات مصرفية ولا يريدون دخول المكاتب، فسمح لشركة شحن الأموال الـ«omt» بتشريج حسابات اللاعبين، ودفع أرباحهم مقابل عمولة بنسبة 3% عن كل عملية.
أصحاب مكاتب المراهنات لا يفضّلون التعامل مع «BetArabia» لأن حصّتهم عبر التطبيق تبلغ 20% من مجمل خسائر الزبائن الشهرية، فيما تراوح مع الموزّعين غير الشرعيين بين 30 و50%. غير أن هؤلاء وقّعوا العقود حصراً من أجل الحماية.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|