التواصل بين المودعين والحاكم بالإنابة: ما خفيَ كان أعظم!
مفاجأتان ظلّلتا لقاء الحاكم بالإنابة وسيم منصوري، مع ممثلي المودعين أول من أمس، في مصرف لبنان. الأولى، أن التفكير المشترك بهدوء، أو بصوت عال خلف الجدران المغلقة في معضلة الودائع ومصيرها ومناقشة الحلول القانونية، والنقدية والمالية، القابلة للتحقيق، يبقى أجدى وأفضل من الصراخ في الشارع، المصحوب دوما بالتوتر والشعبوية، وأكثر مردودا من الإعتداء على فروع المصارف، وأخذ موظفيها رهائن، وممارسة الإبتزاز الأمني والإنساني، لاسترداد مبالغ جزئية ومحدودة من الودائع.
المفاجأة الثانية، ما نُقل عن منصوري من أن التعميم 151 سيكون فور إقرار النواب موازنة 2024 بحكم الملغى، لأن الحكومة أقرت سعر صرف يوازي الـ 85500ليرة للدولار تقريبا فيها، بديلا من الـ 15 ألفاً.
ما نُقل عن منصوري، في ما لو أتيح تطبيقه عن الإلغاء الحكمي للتعميم 151، أمر بالغ الأهمية، وتطور جديد ونوعي. لكن لا يظنن أحد وفق ما نقل عنه أن مصرف لبنان سيقدِم على اصدار التعاميم والمذكرات ذات الصلة ما لم تتضمن الموازنة وتواكبها الاصلاحات المالية والنقدية الضرورية والمطلوبة لانتظام العمل المصرفي.
وفي حال أقرت الموازنة على سعر يوازي الـ 85500ليرة، ولم تقر القوانين الاصلاحية المنشودة، فإن العلاقة بين المصارف والمودعين متجهة الى مزيد من التأزم، خصوصا ان مصادر "المركزي" تؤكد أنه "لن يتم اصدار تعاميم جديدة تنظم العلاقة بين الجانبين ولن يتم تحديد قيمة السحوبات المتاحة شهريا أو سعر الصرف المطلوب للسحوبات". وتاليا هل تكون البلاد امام تحرير للودائع "اللولارية"، عبر فتح الباب أمام "ليلرتها" على قيمتها الفعلية بالدولار "الفريش"، والسماح بتسييلها، ومن ثم إتاحة سحبها من الحسابات المصرفية؟
العلل دائما في التفاصيل، والشياطين الكامنة فيها، وفي الأجوبة الضرورية المطلوبة على أسئلة منها: من سيدفع؟ فالسحوبات ستكون حكماً بآلاف المليارات، فيما المصارف تئن من شحّ السيولة، التي يقننها مصرف لبنان لكبح التضخم. ومن سيضمن تاليا عدم تحوّل هذه الكتلة الضخمة من الليرات إلى الدولار، ما سيسبب حتما خسارة كبرى للإستقرار الحالي في سعره، والعودة إلى لعبة المضاربة والقفزات الجنونية في سعر الصرف؟
في التفاصيل، أن اللقاء الذي جمع منصوري مع ممثلي المودعين، خلص وفق ما نقله الحاضرون الى اعتبار التعميم 151 المتعلق بالسحوبات النقدية على سعر 15000 ليرة "بحكم الملغى"، على اعتبار أن مشروع موازنة 2024 يعتمد على سعر دولار منصة صيرفة أي 85500 ليرة (حاليا). وبالتالي، سيلغى سعر دولار الـ15000 ليرة، أي "اللولار".
لكن مصادر منصوري أكدت لـ"النهار" ان الموضوع لا يرتبط بالمصرف المركزي، بل بخلق اطار قانوني متكامل لمعالجة مسألة الودائع، إذ لا اقتصاد من دون مصارف، ولا وجود للمصارف من دون ثقة المودع. فثقة المودع هي الاساس، ولكي تكسب المصارف ثقة المودع من جديد، عليها اعادة وديعته أو على الاقل أن يكون مدركا اي مصير لها. وهذا الامر لن يكون متاحا برأي المصادر عينها الا عبر إقرار القوانين الاصلاحية المواكبة لمشروع موازنة 2024. فهذه القوانين ستتيح للمودع زيادة المبالغ التي يمكن تحصيلها من وديعته، وستحسن اوضاع المصارف بما يمكّن المودع من الافادة اكثر وتدريجا مع الوقت، فيما التعافي سيصبح ممكنا، ولكن ان يبقى الوضع على حاله فإن الامور ستزيد تعقيدا ولن يصل المودع والمصارف الى نتيجة.
وتؤكد المصادر أن منصوري شرح للمودعين (من دون أن يلتزم بوعود)، أن اعتماد سعر صرف الـ 15 ألفا بالتعميم 151 مرتبط بموازنة 2020، وتاليا عندما تقر الموازنة سيحل سعر الصرف الجديد محله أي سعر الصرف الحر.
فيما أكدت مصادر المودعين أن الحاكم بالانابة كان واضحا حيال التعميم 151، شارحا انه تم تحديد سعر الـ 15 ألف ليرة في موازنة 2020، وحيث أنه لا يمكن تعديل سعر الصرف إلا بموجب قانون، ففي مشروع قانون الموازنة الجديدة سيكون سعر الصرف المذكور فيها نحو 90 ألفا، وعند إقرار قانون الموازنة الجديدة سيتمكن المودعون من السحب على نفس السعر الوارد في الموازنة أي نحو 90 ألفا ويتم تلقائيا إلغاء سعر 15 ألف ليرة.
لكن مصادر مصرف لبنان عادت لتسأل: هل في قدرة المصارف تسديد قيمة الودائع كاملة بالليرة اللبنانية، وفي حال حصل ذلك ما هو مصير سعر الصرف؟ من هنا تعود المصادر الى النقطة الاساسية، وهي ضرورة وضع اطار قانوني متكامل، علما أن المصرف المركزي وفق ما تؤكد "لن يضع نفسه بوجه المودع، أي أنه عند صدور موازنة 2024 لن يقدم المركزي على وضع "كابيتال كونترول" مخفض ولن يضع حدودا للسحوبات، وسيترك الموضوع مفتوحا على مصراعيه، وتاليا على النواب الذين سيصوتون على مشروع الموزانة، أن يصوتوا في الوقت نفسه على القوانين الاصلاحية الاخرى لتنظيم العلاقة بين المودع والمصرف".
وتشير المصادر الى أن "التعميم 151 يقضي بأن يؤمن مصرف لبنان سيولة للمصارف بالليرة اللبنانية "فريش" (1600 دولار على سعر 15 الف ليرة) لكل وديعة. وفي حال صدرت موازنة الـ 2024 فإن مصرف لبنان سيلغي التعميم، إذ لن يكون في مقدوره تأمين ليرات لبنانية "فريش" لحد الـ 1600 دولار "كاش" على سعر الصرف المحرر"، مؤكدة أن التعميم 151 باق لكي يؤمن "المركزي" حدا ادنى من السيولة بالليرة للمصارف لتلبية حاجات المودعين بالحد الادنى، ولكن عندما تصدر موازنة الـ 2024 فالتعميم 151 سيكون بحكم الملغى".
بالنسبة للتعميم 158، أوضحت مصادر المودعين أنهم طالبوا برفع سقف السحوبات على التعميم وجاءت الإجابة على لسان الحاكم بعدم إمكان تحقيق هذا المطلب حاليا لأسباب عدة تم شرحها من قِبله. وقد وعد بدراسة هذا الأمر ليتمكن من رفعه الى نحو ألف دولار في المستقبل. وبناء عليه سوف يطلب من مجلس النواب القيام بإعادة هيكلة المصارف ليستطيع البت بهذا الموضوع ويتمكن من تحديد سقف السحب على هذا الأساس.
من جهتها تؤكد مصادر "المركزي" أنه "إذا كان المطلوب رفع سقف السحوبات الى اكثر من 400 دولار شهريا أو اعادة الودائع لأصحابها، فإن ذلك يتطلب أن تؤمن الارضية القانونية اللازمة التي تفضي الى أن تعمل المصارف بشكل طبيعي وتجني الارباح، علما أن المصرف المركزي حظر على المصارف أن توزع أنصبة ارباحها لمساهميها، وتاليا يمكن ان تخصص كل الارباح لرد ودائع المودعين".
المصادر تجدد تأكيدها أن "المركزي" لن يصدر اي تعميم جديد، "وفي حال لم تصدر الموازنة مع قوانين اصلاحية فإن العلاقة بين المصارف والمودعين ستكون عرضة للتوتر، إذ سيطالب المودع بوديعته على سعر الصرف الجديد، فيما البنك لن يكون قادرا على ذلك".
ولكن اليس من واجبات "المركزي" تنظيم العلاقة بين المصارف والمودعين؟ لا تنفي المصادر هذا الامر، وتقول: "صحيح أن من مهام المصرف المركزي تنظيم العلاقة بين المودع والمصارف، ولكن عندما تصدر موازنة جديدة من دون الاخذ في الاعتبار اقرار القوانين الاصلاحية ومن بينها "الكابيتال كونترول" فإن كل النظام المصرفي سيتعرض لمخاطر.
فالموضوع لا يتعلق بمصرف واحد، بل بالقطاع المصرفي ككل الذي تعرّض للمشكلة نفسها في الوقت عينه"، مذكرا بمشكلة المصارف اليونانية وسرعة معالجتها، إذ تم اقفال المصارف يوم الخميس وصولا الى يوم الاثنين حيث كانت كل القوانين والقرارات قد أعدت وتم تنظيم العمليات كلها. أما في لبنان فإن الأزمة مر عليها 4 أعوام، ولم يصر الى اقرار أي قانون لتنظيم العمليات المصرفية وعودة الأمور الى طبيعتها، فهل المطلوب من مصرف لبنان أن ينظم العلاقة بين المودع والمصرف من دون أن يواكبه اي عملية اصلاحية؟ هذا امر مستحيل، فليتحملوا المسؤولية ويقروا قوانين جديدة لتنظيم هذه العلاقة".
أحد ممثلي المودعين ريشار فرعون شرح لـ "النهار" أن "اللقاء مع الحاكم بالانابة كان ايجابيا، إذ طالب ممثلو المودعين الحاكم بضرورة تطبيق المادة التاسعة من القانون الرقم 44 والإفادة من الصلاحيات المعطاة للحاكم من أجل حماية حقوق المودع ومساعدته على استرجاع أمواله، كما طالبوا بملاحقة أثر الأموال المهربة إلى الخارج من خلال المنظمات الدولية ولا سيما وحدات الإستخبار المالي المنتشرة في العالم وعددها 185 وحدة دولية".
وقال فرعون: "أعتقد أن وسيم منصوري حسن النية، لكنه لن يستطيع الإنتصار على الطبقة السياسية وعلى المافيا المصرفية".
يحاول المودعون اللحاق بودائعهم وجنى أعمارهم، ويسعون لإبقاء قضيتهم حية، ومحاولة مواجهة اليأس والقنوط، بصناعة الأمل. وما لقاؤهم الحاكم بالإنابة إلا خطوة في مسيرة الألف ميل وربما أكثر، لكنها الخطوات الجريئة والضرورية، المطلوب حماية دروبها ومسالكها بقوة، لأنها السبل الوحيدة التي توصل إلى إعادة ما يمكن من الودائع لأصحابها، فيما الخطط والمشاريع الحكومية لا تعدو كونها بيعاً للأوهام والأحلام الزهرية.
"النهار"- سلوى بعلبكي
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|