دولارات الصيف دعمت الصمود وتكثيف الجبايات عزّز المالية العامة
"النهار"- سلوى بعلبكي
يحار المراقبون في تفسير كيفية صمود سعر صرف الليرة اللبنانية دون الـ 90 ألفاً أمام الدولار الأميركي، فيما فقد الشيكل الإسرائيلي حتى اليوم ما يقرب من 7% من قيمته أمام الدولار منذ بدء حرب غزة، وتحوّل إسرائيل إلى مجتمع حرب. عدا عن ذلك، قُدرت خسائر إسرائيل الإقتصادية حتى الآن بـ 7 مليارات دولار، اضافة إلى توقف العجلة الإنتاجية فيها، بسبب استدعاء الإحتياط، وتعطل حركة السياحة والملاحة وتوقف موارد حقل تمار للغاز، وغيرها من الأنشطة الاقتصادية.
هذه العوامل دفعت شركتي "موديز" و"فيتش" الائتمانيتين إلى وضع الإقتصاد الإسرائيلي تحت المراقبة، فيما تؤكد معلومات صحافية أن "ستاندرد آند بورز" ستنضم إليهما قريبا، وهو ما يرجح إتجاه المؤسسات الدولية نحو خفض تصنيفها الائتماني.
المقارنة بين الإقتصادين الإسرائيلي واللبناني غير جائزة، فالإقتصاد الإسرائيلي يمتلك مكامن قوة وإنتاج لا يمتلكها الاقتصاد اللبناني الذي يعاني منذ 4 سنوات من انهيار غير مسبوق، شمل مختلف قطاعاته الانتاجية والمالية والنقدية، وشغور وتشرذم في مواقع القرار الأساسية فيه.
لكن بقاء الليرة حتى تاريخه بمنأى عن نار حرب غزة، واللهيب المتقطع على الحدود الجنوبية، مرده إلى عوامل وخطوات تراكمية قامت بها الدولة اللبنانية ووزارة المال ومعهما #مصرف لبنان منذ بضعة أشهر، وقبل اندلاع العمليات العسكرية، بغية ضبط سعر الصرف ومنع السقوط الكلّي لليرة إلى القاع.
لعبت الأقدار دورها لمصلحة لبنان حتى الآن، وتحقق الاستقرار النقدي برغم حماوة الإقليم والحدود الجنوبية، وكان لخطوة "شفط" نحو 50 ألف مليار ليرة من السوق وخفض التضخم منذ 7 أشهر تقريبا، أثرها المباشر على تقليص حركة بيع وشراء الدولار، وتثبيته عند حدود الـ 89 ألف ليرة.
إلى ذلك، اضطلعت حركة الجباية المرتفعة للضرائب والرسوم المالية والجمركية التي تحققت لمصلحة الخزينة، بدور أساسي في تعزيز سيولة الدولة وقدرتها على الإنفاق من دون اللجوء إلى طبع العملة وزيادة التضخم.
عامل آخر لا يقل أهمية ساعد في كبح تفلّت الدولار هو الجباية المرتفعة التي حققتها "مؤسسة كهرباء لبنان" خلال شهري تموز وآب الماضيين، وتمكّنها من جمع آلاف المليارات، ما أخرج تلك السيولة الضخمة من السوق وأبعدها عن المضاربة.
الى ذلك، ثمة عوامل أخرى لا تزال تعزز القدرة على حماية الليرة، في ما لو بقي لبنان بمنأى عن الحرب ومآسيها. فالموسم السياحي الناشط جدا الذي مرّ صيفا على لبنان وضخّ ما يقرب من 4 مليارات دولار في السوق، واستمرار مصرف لبنان بدفع رواتب القطاع العام والعسكريين والمتقاعدين التي تبلغ نحو 7 آلاف مليار ليرة شهريا بالدولار على سعر صيرفة، ساعدا في توافر العملة الصعبة، وأبعدا شبح التفلت في أسعار الصرف عن الأسواق.
ولا بد هنا أيضا من ملاحظة أنه فيما لا ضغوط على مالية الدولة ومصاريف كبرى في الوقت الحاضر، اضافة إلى تمنّع الحاكم بالإنابة وسيم منصوري عن مسايرة السلطة وعدم السماح لها باستعمال الإحتياط، فإن حركة تحويل الدولارات إلى خارج لبنان، عبر المصارف من الحسابات الجديدة (الفريش)، أو عبر شركات تحويل الأموال، بقيت محدودة جدا. ويعود ذلك الى عاملين اثنين: الأول أن لا ودائع إستثمارية ضخمة كالسابق لدى المصارف، والثاني، حاجة حاملي الدولارات الى استخدامها في أعمالهم أو لحاجاتهم الشخصية.
يبقى أن ما سبق من عوامل تقنية تخدم حتما إستمرار الاستقرار في سعر صرف الليرة، لكن ذلك لا يلغي إطلاقا أن الثقة بالعملة الوطنية هي العامل الأكثر صلابة الذي يحمي قيمتها وثباتها ودورها في خدمة الاقتصاد.
الكاتب والباحث الاقتصادي زياد ناصر الدين رأى ان "الاجراءات التقنية التي اتخذها مصرف لبنان ومنها وقف طبع العملة وسحب السيولة من السوق ووقف المضاربات، معطوفة على الاجراءات التي اتخذتها وزارة المال، ساهمت بلجم تدهور سعر الليرة. فوزارة المال اتخذت قرارات عدة تتعلق بتحديد الدولار الجمركي بسعر موازٍ نوعا ما لسعر السوق، ما حدا بالتجار الى تسديد الرسوم بالدولار، اضافة الى القرار المتعلق بتسديد جزء من الضرائب والرسوم الجمركية نقداً على بعض السلع، بما فيها الرسوم النسبية والرسوم النوعية والحدّ الادنى، ورسوم الاستهلاك ورسم الـ3% والضريبة على القيمة المضافة، على المحروقات بكل انواعها، وعلى السيارات السياحية الجديدة والمستعملة وعلى الاجهزة الخليوية، بنسبة 75% نقداً بالحد الادنى، و25% بموجب شيك مصرفي، بما ساهم بسحب السيولة من السوق والتخفيف من المضاربة".
والاهم برأي ناصر الدين هو "عدم وجود السجال السياسي، وتاليا عدم استخدام السوق للضغط على الفئات السياسية بين بعضها البعض".
هذه العوامل، يضاف اليها تدفق العملة الصعبة خلال موسم الصيف والتي قُدرت ما بين 4 مليارات دولار و6 مليارات في فترة لا تتعدى الـ 4 أشهر، اضافة الى عامل آخر هو أن الحكومة ليس لديها نفقات استثمارية، فيما يتم استخدام الدولار بالمكان الصحيح.
وبرأي ناصر الدين ايضا ان "هذه الاجراءات التقنية يتطلب ملاقاتها بموازنة للعام 2024 تأخذ في الاعتبار اصلاحات، على أن يكون جزء منها اصلاحات ضريبية تساعد على تثبيت هذا الاستقرار".
واذا كان ناصر الدين اعتبر أن "الليرة في ظل التدابير والاجراءات التي اتُّخذت من مصرف لبنان ووزارة المال يمكنها الصمود حتى آخر السنة"، فإن للكاتب والباحث في الشؤون المالية والاقتصادية البروفسور مارون خاطر رأياً معاكساً تماما لما أدلى به الاول. إذ لا يرى خاطر امكانية لصمود الليرة كثيرا في ظل هذه الأوضاع، مستندا في رأيه هذا الى وقائع عدة منها أن "الاقتصاد اللبناني منهار وهو مستمر في الانهيار، وتاليا فإن الليرة اللبنانية كنتيجة لهذا الانهيار المزمن، هي ليرة لا قدرة لها على الصمود في زمن السلم، فكيف الحريّ بها الصمود في ايام الحرب. أما الاستقرار الذي نشهده حاليا في سعر الصرف، فليس نتيجة اي مقومات اقتصادية، او مؤشرات ايجابية للنمو الاقتصادي، وانما هو ناتج عن 3 عوامل. أول هذه العوامل، هي كلمة السر السياسية التي منعت المضاربة في سوق القطع منذ تسلم الحاكم بالانابة وسيم منصوري مهامه، بما خوّل مصرف لبنان أن يكون اللاعب الاوحد في سوق القطع. العامل الثاني، يتعلق بدولرة الاقتصاد بشكل كبير بما أدى الى توزيع الطلب وتخفيف الضغط عن الدولار. أما العامل الثالث فهو الاقتصاد النقدي الذي يسهل دخول الاموال الى لبنان وخروجها بعيدا عن القطاع المصرفي. لكن هذا النوع من الاقتصاد له عواقب كثيرة على لبنان، على خلفية مصادر هذه الاموال وطرق استخدامه"ا، مبديا تخوفه من "فرض عقوبات على هذه الاموال التي ليس للبنان القدرة على تتبع مصادرها ونواحي استخدامها".
أمام هذا الواقع، يرى خاطر أن "الليرة اللبنانية غير قادرة على الصمود، وتاليا فإن اي توسع لساحات المواجهات المسلحة وامتدادها الى لبنان ستكون له عواقب تدميرية على قدرة الاقتصاد على النهوض مجددا، وسيؤخر الحل السياسي المنتظر لانطلاق ساعة الصفر للنهوض الذي سيصبح صعبا من الناحيتين العملية والزمنية".
وفيما يكثر الحديث عن الاجراءات التقنية التي اتخذها مصرف لبنان لوقف لجم تدهور الليرة وصمودها في هذه الفترة، يؤكد خاطر أن المصرف المركزي "غير قادر على اتخاذ اي اجراءات لضبط السوق، وهو جزء من الدولة المتحللة، ولا قدرة له حتى على إقراض الدولة". أما ما حُكي عن اجراءات اتخذها الاسبوع الماضي فقد استمرت ليوم واحد فقط، إذ حاول في اليوم الأول من الحرب على غزة وضع بعض التدابير التي اعتبر أنها تعزز إستقرار سعر الصرف، فطلب ممن يريد أن يبيع الدولار الى المركزي مقابل الحصول على الليرة إبراز بيانات جمركية ووثائق رسمية تؤكد تسديده المبالغ التي يحصل عليها لخزينة الدولة. إلا أن هذا التدبير لم يصمد سوى ليوم واحد فقط. فصباح يوم الثلثاء عاود مصرف لبنان التدخل في سوق القطع شاريا الدولار بـ"دماثة" لا تشكل طلبا متزايدا، ولكن من دون استمرار العمل بالضوابط المشار اليها، والتي ليست إلا لزوم ما لا يلزم في زمن الإنهيار الذي تمنع السياسة إعلانه جهاراً.
وجدد خاطر القول إن مصرف لبنان هو حاليا "اللاعب الاوحد في سوق القطع، وانما ليس لناحية ضبط العمليات بل حصرها، وتاليا ليس له القدرة على التدخل للدفاع عن الليرة او لأخذ ترتيبات أو اجراءات من أجل تثبيت أو تعزيز الاستقرار، وأصلا لم يفعل ذلك، بل اتخذ إجراءات بغية تقليص العمليات بما ادى الى تخفيف الطلب على الدولار". ويضع خاطر "كل ما يتم تسريبه بأن الوضع مستقر في سياق التطمين، في حين أن العامل الاوحد الذي يمكن أن يعزز هذا الاستقرار هو استمرار كلمة السر لوقف المضاربة والتلاعب بالسوق، على امل ألا تتدحرج الامور الى مرحلة لا يمكن ضبطها مجددا. فالبلاد لا تحتمل عواقب اي حرب، في انتظار الحل السياسي لانقاذ اللبنانيين من الكارثة التي يعيشونها
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|