الصحافة

عملية «النداء القاتل»: إسرائيل ترتقي بنموذج الـ «بانوبتيكون»؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

لا شك في أن زمن وقوع حدثٍ أيّاً كان عنصر جوهري في فهم الأبعاد والخلفيات التي قادت إلى وقوعه. ولا ينفصل توقيت تنفيذ عملية «النداء القاتل» عن التطورات التي تتفاعل منذ نحو عام، وفاقمتها أحداث غير مألوفة في تاريخ الحروب مع إسرائيل، بدءاً من «طوفان الأقصى»، مروراً بفتح جبهات الإسناد من المطلة إلى البحر الأحمر، ثم الهجوم الإيراني بالطائرات والمُسيّرات الانقضاضية، وليس بمهاجمة اليمن المحاصر منطقة تل أبيب وتحكّمه بأمن الممر المائي الذي يسيطر عليه.جملة ما تقدّم يتلخّص بأحداث شكّلت دليلاً على إمكانية تحدي مفهوم الـ«بانوبتيكون» (Panopticon) الذي صاغه الفيلسوف الإنكليزي جيريمي بنثام، كأساس لفكرة السجن، بهدف هندسة الإرادة والعقل والجسد من خلال العلاقة بين الرقابة والمعاقبة. ويقوم مفهوم الـ«بانوبتيكون» (أو المشتمل بالعربية) على بناء هندسي حقيقي لسجن محصّن، يتوسطه برج مراقبة يضم سجّان بإمكانه مراقبة جميع المعتقلين، من دون أن يتمكن هؤلاء من رؤيته، مع اعتقادهم الدائم بوجوده في البرج حتى لو لم يكن موجوداً. هذه القوّة غير المرئية (السجّان، أو كاميرات المراقبة) تسلبهم إرادتهم عبر إخضاع عقولهم وضبط أجسادهم من خلال إشعارهم بأنهم مراقبون على الدوام. وبالتالي تغدو الأجساد الأسيرة فاقدة للقدرة على الإنتاج الماديّ وتتحول إلى كائنات خاضعة، تنمو في داخلها رقابة ذاتية، وتسيطر على عقولهم حالة من الخوف المتواصل.
صحيح أن هذا ما تطبقه إسرائيل في سجونها فعلياً بطريقة أكثر «تطوراً»، لكن الأمر لا ينحصر بين جدران معتقلاتها، بل ينسحب تطبيقها لهذا المفهوم على المجتمع الفلسطيني ككل، وتحاول تطبيقه على حركات المقاومة ومجتمعاتها، ليس ليس فقط بالجدران الإلكترونية والأقمار الاصطناعية وأدوات التجسس وغيرها، بل أيضاً من خلال القوة «غير المرئية» أو «غير المحسوسة»، وهي عادة ما تترافق مع تكثيف لفعل (عسكري، أمني...) يهدف إلى إحداث صدمة عميقة داخل جسد المقاومة، ومجتمعها المستهدف، بهدف صياغة وعي الأخير وهندسته وتشكيل ردوده وأفعاله وسلوكياته، ضمن العملية الرامية لإخضاعه.
يمثل تفجير آلاف أجهزة الاتصال اللاسلكي بشكل متزامن تكثيفاً هائلاً لنموذج الـ«بانوبتيكون». فبمعزلٍ عن كونها عملية أمنية غير مسبوقة، وتهدف ربما إلى مراكمة إنجازات تكتيكية في سياق المعركة الجارية، ورغم ربط توقيتها باحتمالات كشفها وإحباطها، هدفت هذه العملية بشكل أساسي إلى المسّ بـ«الكأس المقدّسة»؛ أي أدوات الاتصال التي تستخدمها المقاومة لإدارة أنشطتها بعيداً من رقابة العدو واختراقه، لإشعارها بأنها مخترقة إلى درجة عميقة تفقدها توازنها، من خلال قوّة هائلة تمكّنت في غضون دقيقة واحدة بالتسبب في جرح الآلاف واستشهاد العشرات، ممن يظنون بأنهم مُحصّنون ومحميّون، عبر تفخيخ أداة الحصانة والحماية نفسها.
على هذه الخلفية، لم يكن غريباً، بعد وقوع التفجيرات انطلاق دعوات في صفوف اللبنانيين للابتعاد عن كل أجهزة الاتصال والهواتف الخلوية والحواسيب النقالة وصولاً إلى أجهزة لا علاقة لها بالاتصالات، كبطاريات الطاقة الشمسية. وما تقدّم لا يتعلّق بالخوف على الحياة فحسب، بل هو نتيجة مباشرة لتكثيف الـ«بانوبتيكون»؛ حيث خلقت العملية حالة من الشعور بالانكشاف أو ما يُشبه «العري الجماعي»، وكأن إسرائيل - أو القوة غير المرئية - التي تسببت في كل ذلك، من خلال التحكم بآلية الاتصال المحصنة، بتحويلها إلى آلية مراقبة مخترقة ومن ثم سلاح قاتل، قادرة على التحكم بأجساد اللبنانيين، ليس من خلال مراقبتهم فحسب، بل من خلال قتلهم بالمراقبة، وبالتالي إخضاعهم إلى أقصى حد.
لكن نتائج نموذج المشتمل عموماً ليست مضمونة على الدوام، وثمة أمثلة صارخة على إمكانية تحديه وحتّى التغلّب عليه سواء من الأسرى في السجن الفعلي، أو من خلال نماذج من حالة المقاومة عموماً. على أن تكثيف النموذج إلى هذا الحد يستوجب أيضاً مجابهته بالدرجة والكثافة نفسيهما، وهو ما يمثّل عملياً تحدياً كبيراً للمقاومة وبيئتها الآن، مستقبلاً.

شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا