"التلغراف": أسماء الأسد تموت... والسرطان يهاجمها بشراسة هذه المرة
سورية القويّة وسورية الضعيفة
سورية القويّة، بحسب ألبرت حوراني، تستطيع التأثير في محيطها القريب وفي المجال الدولي. أمّا سورية الضعيفة فتصبح عبئاً على نفسها وجيرانها والعالم. في عهد حافظ الأسد كانت سورية بحسب باتريك سيل تصارع على الشرق الأوسط. أمّا إبّان سقوط بشار فصارت فيها عشرات الدول والميليشيات، وتحوّلت إلى بيئة جريمة ومخدّرات. فهل يستطيع العهد الجديد إصلاح الحال، بدون عجزٍ وبدون فائض قوّة؟!
كنّا نحضّر مؤتمراً عن لبنان كالعادة ببوسطن عام 1989، ووقف من قال إنّ “عند حافظ الأسد ورقة جديدة للاستعمال: النزاع الأميركي المقبل مع العراق”. فقال ألبرت حوراني الأستاذ المعروف يومها بسانت أنطوني بأوكسفورد: “عندما تكون سورية قويّة تستطيع التأثير في لبنان والأردن والعراق وتركيا وإسرائيل. وعندما تكون ضعيفة فإنّ سائر تلك الجهات تؤثّر فيها”.
يومها كان باتريك سيل قد كتب كتابه الثاني عن سورية بعنوان: حافظ الأسد والصراع على الشرق الأوسط. أمّا كتابه الأوّل في أوّل السبعينيات من القرن الماضي، فكان بعنوان: الصراع على سورية.
في الكتاب الأوّل كانت سورية ضعيفة بسبب الانقلابات وعدم الاستقرار، ولذلك تدخّل فيها العراق (في العهدين الملكي والجمهوري)، والأردن، ومصر (بالوحدة وقبلها). واستجدّ صراعٌ عليها بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
إنّما بعد عشرين عاماً من الاستقرار في سورية في عهد حافظ الأسد، جاء العنوان الثاني لباتريك سيل (على فكرة أظنّه تلميذ ألبرت حوراني؟) عن قيادة حافظ الأسد شخصيّاً أكثر ممّا هو عن سورية التي لم يعد فيها غير لاعب واحد، وقد استطاع الأسد الاستيلاء على لبنان وتخويف الأردن والتصارع مع العراق، لكنّه عندما حاول اللعب مع تركيا (حزب العمّال الكردستاني) هدّدته تركيا بالغزو حتى سلّم أوجلان وأبطل تنظيم حزبه بسورية.
أمّا مع إسرائيل فقد لعب لعبة مثل لعبة إيران، أي مصارعتها بتنظيمات وسيطة فلسطينية وغير فلسطينية. بل إنّه حاول اللعب معها عن طريق التشارك في مصارعة عرفات ومنظّمة التحرير.
من طريق فلسطين كسب في لبنان
من هذا الطريق (طريق فلسطين) كسب في لبنان، وصار طرفاً في الصراع على فلسطين باسم العرب بعد خفوت الدور المصري. وما استطاع الاستفادة من صراعه مع العراق مباشرة، بل إنّه تحالف مع إيران في الحرب، وظلّ حليفاً مستفيداً بعد نهاية الحرب (1988) بحيث احتاجت إليه أميركا في الوساطة أحياناً. وما خسر حقّاً في البداية والنهاية إلّا مع إسرائيل: 1967، 1973، 1982، والفشل في استعادة الجولان حرباً أو سلماً (ليس مثل مصر التي استعادت سيناء بالتفاوض).
لماذا هذه القصّة الطويلة عن سورية الأسد الأب (والابن؟). ألبرت حوراني قال، كما سبق، إنّ سورية القويّة تتدخّل في محيطها، وسورية الضعيفة يتدخّل فيها محيطها. وهذا الذي حصل في سورية بشار الأسد.
ما بقي أحدٌ إلّا وتدخّل فيها حتى أكثر ممّن تدخلوا في لبنان. والطريف أنّ الضرر الأكبر الذي نزل بسورية حصل من حلفائها: إيران وميليشياتها. وكان حافظ الأسد يهدّد بالجيش لكنّه قليلاً ما يستخدمه، وأمّا بشار فقد استخدم الجيش بكثافة إنّما ضدّ شعبه، أو لنقل ضدّ أكثريّة شعبه. وماذا يبقى لك إذا صار الجيش الوطني لردع الداخل، وتحوّل الحلفاء إلى مسيطرين على مرافقك ومؤسّساتك؟ ثمّ كيف حمى بشار نظامه؟ ليس بالجيش والبراميل المتفجّرة والكيمياوي فقط، بل وبالقتل الذريع والسجون الهائلة، وتهجير ما بين عشرة واثني عشر مليون سوري، وقال بعدها إنّ الشعب صارت عناصره أكثر انسجاماً، أي بعد التقليل من أعداد الأكثرية السنّية.
تقديم أهل الثّقة على أهل الخير
منذ السبعينيات من القرن الماضي بدأ المثقّفون السوريون من خلفيّات قومية أو يسارية يكتبون عن الطائفية في سورية. وقد عنت الطائفية آنذاك تقديم أهل الثقة على أهل الخبرة في الجيش والمناصب العامّة، وتقديم الأقلّيات في الأجهزة الأمنيّة المتكاثرة.
بيد أنّ هذه الظاهرة لم تبلغ الذروة إلّا في أيّام بشار. وليس هذا فقط. بل إنّه من أجل حماية النظام، استجلب بشار أو سلّم لإيران وميليشياتها المشهد الديني العامّ. فإذا كان البعثي من الأقلّيات التي لا تهتمّ للشأن الديني، فإنّ الإيراني أو العراقي أو اللبناني الآتي إلى سورية يستبيح المشهد العامّ الديني بالرسوم والشعائر الشيعية، كأنّما يريد إحلال دينٍ محلّ دين أو مذهب محلّ مذهب. وقد زاد ذلك من إحساس عامّة الناس بالقمع والملاحقة والتمييز والتنكّر لعادات الناس وأعرافهم ومظاهر حياتهم الدينية والاجتماعية.
بدت سورية عشيّة تحرّك الجولاني (27/11-8/12/2024) شديدة الضعف لوجود عدّة قوّات دولٍ فيها، ومنها أميركا وروسيا وإيران وتركيا، والميليشيات المتأيرنة، والميليشيات التابعة لتركيا، والبؤرة الكردية التي تحميها الولايات المتحدة، إضافةً إلى ميليشيات الجريمة (الشبّيحة) والمخدّرات. ولا شكّ أنّها كانت مكشوفةً لإسرائيل أكثر من “الحزب” بلبنان، بدليل مئات الغارات والاغتيالات الإسرائيلية بالداخل السوري خلال سنوات من غير أن تخطئ أهدافها غالباً.
لماذا استمرّ النظام 14 عاماً منذ تمرّد عام 2011 على الرغم من كلّ مظاهر وظواهر التفكّك والاضمحلال؟ لقد تبيّن أنّها دوائر ضيّقة هي التي استمرّ الرئيس وشقيقه في السيطرة عليها، وهي قسمان: أمنيّ وتجاري. وبسبب الحصارات وضيق سبل العيش ما عادت دولة الأسد تهتمّ للجيش. ولذلك وقع عبء أمن النظام العامّ على عاتق إيران وروسيا وقوات الحرس الجمهوري. والسدّ الثاني الحائل دون سقوط النظام: عدم رغبة إسرائيل بذلك ما دام النظام لا يشكّل أيَّ تحدٍّ، ولا يتذمّر كثيراً حتى من الغارات الإسرائيلية على الداخل.
في سنة الحرب على غزة ولبنان، استمرّت الغارات الإسرائيلية على الداخل السوري لمنع تمرير السلاح من إيران عبر العراق وسورية إلى لبنان. وقد تبيّن للأميركيين والإسرائيليين وحتى للعرب، الذين كانوا يسعون إلى مصالحة الأسد وإعادته للجامعة العربية، أنّه لم يعد قادراً ليس على منع تغلغل الإيرانيين فقط، بل حتى مكافحة صناعة المخدّرات وتصديرها عبر الأردن والبحر والعراق.
أنصار الخلاص من النّظام
في الوقت نفسه كان الروس ينسحبون للمشاركة في الحرب على أوكرانيا، و”الحزب” يسحب عناصره بسبب حرب إسناد غزة الكارثية. ولذلك جرت مشاورات عميقة متعدّدة الأطراف، وصار الأتراك والأميركيون والإسرائيليون من أنصار الخلاص من النظام. وتلقّى الروس الثمن المناسب لسحب الأسد مرغماً فيما يبدو.
سورية الآن في أدنى درجات الضعف لسوء الحظّ والأسى والأسف. والدليل: اختفاء الجيش، ومئات الغارات الإسرائيلية، وغياب حتى الشرطة من الشارع. وهذا الأمر بحدّ ذاته يبعث على الخوف من الفوضى والتمرّدات المضادّة.
سورية القويّة عبء على جيرانها، وسورية الضعيفة عبء أيضاً على نفسها وجيرانها. نرى الأميركيين والأوروبيين يتسارعون إلى سورية على الرغم من وجود الجولاني على رأس الإدارة العسكرية المؤقّتة. ليسوا حريصين على سورية، لكن ما عادوا يتحمّلون موجات الهجرة والتهجير، ولا زلازل الجوع والخراب، ولا هجمات التطرّف العنيف، ولا أصوليّات طالبان. يريدون تهدئة العاصفة الإسرائيلية وقطع أذرع إيران. وهذا وذاك من دون المزيد من الاضطراب. فهل تستطيع سورية الجديدة طمأنتهم لهذه الجهة؟
رضوان السيد -اساس
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|