الصحافة

جوزف عون: الاستثناء يصنع القاعدة

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

من الآن إلى 9 كانون الثاني، موعد الجلسة المفترض أنّها الأخيرة لانتخاب الرئيس، يدور معظم السجال من حول جوزف عون، كما لو أنّه المرشّح الوحيد… دونما أن يكون كذلك. مع أنّ اثنين فقط جاهرا بترشيحه، سليمان فرنجية بشرط تخلّيه هو عن ترشيحه الشخصي، ووليد جنبلاط محاولاً تحريك جمود الاستحقاق.

ويواجه التصويت لقائد الجيش عقبات دستورية تارة، وشخصية طوراً، ومبدئية أحياناً. لوقف تحوّل “الرئيس” رتبة تلقائية حتمية تعلو رتبة عماد. يخشى البعض انتخابه من إفراط الخارج في الإصرار عليه، وهو واحد في سلسلة أسلافه، والبعض الآخر من عناده واستئثاره بالدور والاجتهاد في الصلاحيّات.

 في 20 تموز 1960 خرج فؤاد شهاب على أثر تراجعه عن تنحّيه مساء ذلك اليوم باستنتاج مغاير لدوافع وصوله إلى المنصب في 31 تموز 1958. عُزي انتخابه كأوّل قائد للجيش يصبح رئيساً للجمهورية، إلى مهمّة تقضي بإطفاء “ثورة 1958” وإعادة الاستقرار والوحدة الوطنية بعد تشقّقها طائفياً. اختصر لجورج نقّاش مغزى وجوده في الحكم وإصرار الغالبية النيابية على رفض استقالته بالقول: “ليس أنا مَن انتخب، اللبنانيون. أنا لا أمثّل سوى استحالة اتّفاقهم على انتخاب آخر”.

أضحت العبارة هذه قاعدة العقود التالية التي تبرّر لكلّ قائد للجيش حقّاً مشروعاً وطبيعياً في الترشّح لرئاسة الجمهورية، كما مساعدة السياسيين، لا سيما مجلس النواب، في العثور على الحلّ السهل للخروج من مأزق تنازع المرشّحين على المنصب.

حتى اتفاق الطائف، لم يُراود الطموح سوى قائديْن للجيش هما إميل بستاني وميشال عون. الأوّل حال دونه تواطؤ الجيش والسلطات السياسية عام 1970، والثاني وقوع أوّل شغور في تاريخ الرئاسة اللبنانية عام 1988.

بعد اتّفاق الطائف كرّست دمشق سابقة 1958 لأسباب لا تمتّ بصلة إلى ما استخلصه فؤاد شهاب. ولاء إميل لحّود لها في الجيش طمأنها إلى ولائه لها على رأس الدولة اللبنانية، واستكماله ما كان بدأه سلفه الياس الهراوي. بعد تسع سنوات أُعيد إحياء عبارة 1960، لكن لوظيفة مغايرة تماماً لما حدث عام 1998: أن يحكم الرئيس من فوق الطوائف والزعماء كي ينتظم هؤلاء داخل الدولة.

لم يُرَد في الواقع من انتخاب ميشال سليمان عام 2008 رئيساً توافقياً سوى أمرين اثنين: منع وصول مرشّح أيّ من فريقَيْ 8 و14 آذار، وسهره على انتظام التوازن السياسي بينهما وتقاسم الحصص، دونما تمكينه من أن يكون أقوى منهما.

المحاولة الرابعة الحالية لإيصال جوزف عون إلى الرئاسة تتقاطع دوافعها مع التي سبقتها، وفي الوقت نفسه تختلف عنها. كفؤاد شهاب وميشال سليمان يرشّحه الظرف الأمنيّ، دونما أن تكون الموانع الدستورية عقبة في طريق وصوله، وكإميل لحّود يؤخَّر تقاعده مرّتين لتبرير استمراره مرشّحاً والتعويل على فكرة أنّ قائداً قويّاً يسعه أن يكون رئيساً قويّاً.

ككلّ قائد للجيش يُصار إلى تداول اسمه باكراً أو متأخّراً، يقترن انتخابه بالحاجة إمّا إلى مواصفاته أو إلى دور الجيش، على الرغم من معرفة القائد أنّه ما إن يصير رئيساً سيمسي مَن سيخلفه في اليرزة منذ الغد في قرارة نفسه، على الأقلّ وأوّلاً، مشروع رئيس مؤجّل.

على أثر تعيينه قائداً للجيش عام 2017، شاع عن جوزف عون انطباعان للفور: أوّلهما شخصيّ بقوله لأبنائه إنّ جدّهم رقيب سابق في الدرك وبيتهم لا تزيد مساحته عن 120 متراً. ثانيهما أنّه، من دون أيّ من أسلافه منذ عام 1989، هو القائد الوحيد الذي سمّاه رئيس الجمهورية، وراح يتحدّث عنه بإعجاب كأحد “الطيور الصغيرة التي ربّيتها” إبّان قيادته الجيش.

تكاد الحاجة إلى دور قائد الجيش تكون العنوان الوحيد لانتخاب جوزف عون رئيساً. مع ذلك تحوط بترشيحه مفارقات:

أولها انه ليس توافقيّاً، بل واحد من مرشّحين موزَّعي المواقع في المال والاقتصاد والدبلوماسية والسياسة والأعمال والأمن. ليس منافساً لأيّ منهم، ولا هو بديل تعذُّر انتخاب أيّ أحد. ما يقوله جوزف عون أن لا أحد في الخارج أو الداخل فاتحه في ترشّحه أو دعمه للرئاسة.

ثانيها أربع محطّات على التوالي أظهرت له الحاجة إلى الجيش وإلى دوره قائداً له. تُنسب إليها اللبنة الأولى الممهِّدة لتفكيره في الوصول إلى رئاسة الجمهورية:

معركة فجر الجرود التي طردت التنظيمات الإرهابية من عرسال وجرودها، مقترنة بغطاء سياسي كامل سبق انطلاقها من ميشال عون ونبيه برّي وسعد الحريري.

فصل الجيش بين طرفَيْ التظاهرات والاعتصامات المتقابلة على أثر انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، وكان ذلك شرارة خلافه مع رئيس الجمهورية لإحجامه عن تدخّل الجيش ضدّ المتظاهرين.

قال للرئيس آنذاك بعدما دُعي إلى قمعهم إنّ الحلّ سياسي وليس أمنيّاً. حالتان فقط تدخّل فيهما: منعه المعتصمين من التعرّض للإدارات والمؤسّسات الرسمية ومحاولة اقتحامها، وفصله بين المتظاهرين المنادين بإسقاط الطبقة السياسية

برمّتها وأولئك المنضوين في الثنائي الشيعي، مانعاً اشتباكاً طائفياً. ذلك ما سيتكشّف فيما بعد فصولاً إضافية في نزاعات مذهبية وطائفية أوشكت أن تنفجر: سنّية ـ شيعية في خلدة، ودرزية ـ مسيحية في قبر شمون، ومسيحية ـ شيعية في الطيّونة ثمّ الكحّالة.

لم تكن قليلة الأثر خلافاته مع الثنائي الشيعي في مطلع تعيينه قائداً للجيش بامتناعه عن الاستجابة لما نادى به من تعيينات وتشكيلات عسكرية. بعض مراحل التباين الحادّ أحياناً كانت في أحداث خلدة والطيّونة والكحّالة دونما انقطاع التواصل مع “الحزب” الطرف المباشر في التباين.

محاوراه اثنان هما محمد رعد ووفيق صفا. كلٌّ في نطاق محدّد. أخيراً في خضمّ الحرب الإسرائيلية اتّخذ مجلس شورى الحزب قراراً بقصْر العلاقة السياسية على محمد رعد وحده. فيما يُعنى وفيق صفا بما يتّصل بإجراءات ميدانية ليس إلّا.

بينما يتصرّف معارضو “الحزب” على أنّه خرج من الحرب الأخيرة مهزوماً، يرفض جوزف عون هذا الوصف آخذاً في الاعتبار آليّة تنفيذ القرار 1701: لا انتشار للجيش في الجنوب قبل الانسحاب الإسرائيلي الكامل إلى ما وراء الخطّ الأزرق وتحقّق القوّة الدولية من حصوله. بعدذاك ينسحب “الحزب”.

يدرك قائد الجيش أنّ سحب “الحزب” سلاحه وعتاده سرّاً على نحو عام 2006 أضحى متعذّراً بفعل الرقابة الإسرائيلية الجوّية الدائمة. كان أبلغ إلى قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال مايكل كوريلا أنّ الجيش اللبناني لن يجري تسليماً وتسلّماً على الأرض بينه وبين الجيش الإسرائيلي. ينسحب العدوّ فيحلّ محلّه الجيش اللبناني.

رفض ما لمّح إليه ضابط أميركي كبير ملحق باللجنة العسكرية الخماسية المنبثقة من الاتفاق اللبناني ـ الإسرائيلي، من اتّخاذ موقع لها في الناقورة في سياق مهمّتها مراقبة وقف النار وتطبيق القرار 1701، تفادياً لإقامة قاعدة

عسكرية أميركية تشبه التنف في سوريا. قدّم قائد الجيش حلّاً بديلاً يقضي باجتماع ضبّاط اللجنة في قاعة تخصّص لهم في اليرزة عندما لا يحضر العضو الإسرائيلي، وفي مقرّ الأمم المتحدة في الناقورة لاجتماع الأعضاء الخمسة. انتهى المطاف بالضبّاط الأميركيين الـ14 اتّخاذ مقرّ لهم في سفارة بلادهم في عوكر.

منذ اليوم الأوّل لاندلاعها عارض، دونما أن يكون معنيّاً بإبداء رأي علني، جبهة الإسناد التي أشعلها “الحزب” ضدّ إسرائيل. تجنّب منذ 23 أيلول الانخراط في الحرب المفتوحة على الرغم من سقوط 49 عسكرياً في اعتداءات

إسرائيلية على مواقعهم. مراراً سمع الموفدين الدوليين في مكتبه يحذّرون من حرب واقعة ستكون مدمّرة.

أخيراً ساهم نأي الجيش بنفسه عن الحرب هذه في تفادي تدمير المنشآت والمرافق الرسمية والمؤسّسة العسكرية نفسها، كي يُعهَد إليها إعادة الاستقرار وتنفيذ القرار 1701.

ثالثها أنّه يتساوى مع أسلافه في السجلّ الطويل لانتخابات الرئاسة اللبنانية منذ ما قبل الاستقلال بالتعويل على دعم خارجي، أضحى في صلب تقاليدها. ليس التأييد الأميركي مكمن ضعف ترشيحه. منذ عام 2007، بانقضاء سنتين على رحيل القوات السورية من لبنان، أُبرم للمرّة الأولى في ظلّ حكومة فؤاد السنيورة أوّل اتّفاق تعاون عسكري لبناني ـ أميركي راح يتجدّد دوريّاً سنة فسنة.

قبلذاك، طوال عقد ونصف عقد من الزمن، اتّكل الجيش في تسلّحه على نحو رئيسي على سوريا التي مدّته بآليّات وعتاد وذخائر، لكن سرعان ما توقّفت عن إمداده بانهيار علاقات البلدين عام 2005. بوشرت حقبة الدعم العسكري الأميركي على أنّه المصدر الرئيسي للتسلّح بمباركة الحكومات اللبنانية المتوالية وفيها وزراء “الحزب”.

ـ لا مشروعاً سياسياً لديه لأنّه يعرف أنّ هذا المشروع منوط بالسلطة الإجرائية وبمسؤوليّتها أمام مجلس النواب. ما يتحدّث عنه هو رؤيته للحكم والمعضلات التي تواجهها البلاد منذ تداعيات 17 تشرين الأوّل في الاقتصاد والمال والخدمات والأمن والسياسة الخارجية والعلاقات مع المجتمعَيْن العربي والدولي.

ـ يتعاطى مع تأليف أولى حكومات العهد على أنّه شريك دستوري للرئيس المكلّف ما إن تقرّر الغالبية النيابية تسميته. يعرف مغزى التوقيع الملزم للرئيس في التأليف، وهو ما يحمله على الذهاب إلى سلطة إجرائية لا تكون على صورة حكومات العهود المنصرمة.

بذلك يملك الفيتو الذي يحول دون توزير مَن لا تطابق مواصفاته المرحلة المقبلة، ويذهب إلى وضع حدّ لأعراف غير دستورية سادت في العقود الأخيرة في تأليف الحكومات المتعاقبة على نحوٍ أحال الكتل النيابية شريكة رئيسَيْ الجمهورية والحكومة في التأليف ومكّنها من فيتو العرقلة.

لا يريد حصّة وزارية على غرار أسلافه منذ اتّفاق الطائف. لا ثلث معطّلاً لأحد. سيكون رئيساً للدولة معنيّاً بما يمتلك من صلاحيّات دستورية لمراقبة مجلس الوزراء، سواء حضر جلساته أم تغيّب عنها.

ـ متيقّناً من أنّ رئيس البرلمان نبيه برّي مفتاح الدولة اللبنانية العميقة، فإنّ التعاون الحتمي معه يشكّل بدوره مفتاح حكم البلاد، تبعاً للقواعد التي تحكم علاقات السلطات والصلاحيّات.

ـ سيكون في صدد الدعوة إلى طاولة حوار وطني تجمع الأفرقاء اللبنانيين جميعاً من أجل صوغ ما يسميه “الاستراتيجية الوطنية”، التي منها تتفرّع عناوين استراتيجيات مالية واقتصادية واجتماعية وإنمائية وصولاً إلى استراتيجية دفاعية ليست مستقلّة في ذاتها، بل هي جزء لا يتجزّأ من خطّة إنقاذ شاملة.

أمّا غير المعلن لمرحلة جوزف عون رئيساً، فاستعداد معاونيه وقريبين منه لإطلاق “حزب الجمهورية” الذي يجمع من حوله غير المنضوين في الأحزاب توطئة لتحوّله قاعدة شعبية داعمة للرئيس.

أساس ميديا - نقولا ناصيف

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا