زخم الرئاسة الاولى وتحقيق الاستقرار المالي والنقدي
كتب العميد الدكتور غازي محمود:
يعيش لبنان منذ انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية عرساً حقيقياً، ويشهد زحمة مهنئين شملت كل من الرئيسين الفرنسي والقبرصي بالإضافة الى امين عام الأمم المتحدة، وكل من وزير خارجية الأردن ووزيرة الدفاع الاسبانية، ومن المنتظر قدوم وزيري خارجية المملكة العربية السعودية ودولة الكويت. على أن تكتمل الفرحة مع تشكيل الرئيس المكلف القاضي والسفير نواف سلام حكومةً تكون على مستوى طموحات اللبنانيين وآمالهم، الامر الذي لا بد أن ينعكس مزيداً من الإيجابية على المستويين السياسي والاقتصادي.
وتأتي هذه التطورات الإيجابية بعد العدوان الإسرائيلي المدمر على لبنان، الذي لم يوفر لا الحجر ولا البشر، وكبد لبنان واللبنانيين كوكبةً من القيادات وآلاف الشهداء والجرحى، بالإضافة الى الدمار الهائل الذي لحق بالقرى الجنوبية والبقاعية وضاحية بيروت الجنوبية. فيما معالجة آثار العدوان تتطلب حكومةً تكون أولى أولوياتها إعادة انتظام عمل الدولة ومؤسساتها، التي من دونها لا سبيل الى تحقيق الانسحاب الإسرائيلي وإعادة اعمار ما تهدم ومعالجة الازمة المالية والاقتصادية التي لا زال يُعاني منها لبنان.
وبينما ينتظر اللبنانيون أن ينعكس هذا العرس الوطني على الوضع المالي والنقدي، وأن يتبلور من خلال تحسّن قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، يراوح سعر الصرف الحالي بين 89300 و89700 ليرة للدولار الواحد. مع العلم أن سعر الصرف هذا لا يُعبر عن القيمة الحقيقية للعملة الوطنية، ولا هو نتيجة لتوازن العرض والطلب على الليرة، بل هو نتيجة لقرار السلطة النقدية (مصرف لبنان) بهدف تحقيق استقرار التعاملات النقدية والعمليات الاقتصادية.
وقد أدى السطو على الودائع وانهيار القطاع المصرفي من ناحية، والمماطلة في إقرار القوانين الإصلاحية واعتماد الحلول المناسبة من ناحية ثانية، الى فقدان الثقة بالعملة الوطنية وبالتالي انهيار سعر الصرف. وبدل اجتراح الحلول المناسبة للازمة المالية من قبل حكومة تصريف الاعمال، وإقرار قانون الكابيتال كونترول وغيره من القوانين ذات الصلة، اقتصرت المقاربات على تعاميم مصرف لبنان، التي على الرغم من اهميتها لم تكن كافية للحد من تداعيات الازمة المالية والاقتصادية.
أما تحسّن سعر صرف العملة الوطنية فيتطلب تحقق جُملة عوامل اقتصادية، من دونها تبقى نتائج هذا التحسن آنية وعرضة للانتكاس من جديد. ويمكن اختصار أهم هذه العوامل بتفعيل القطاعات الانتاجية التي تُشكل الاقتصاد الحقيقي وتُعبر عن القوة الاقتصادية للبلد. إلا أن النهوض بالقطاعات الإنتاجية وزيادة إنتاجية الاقتصاد الوطني وتنافسية منتجاته، يتطلب استثمارات طويلة الأمد، الامر الذي يتطلب بدوره استقرار امني وسياسي بدايةً يليهما إصلاحات للنظام الاقتصادي والسياسي وتفعيل القضاء وتحصينه.
كما أن سعر صرف العملة الوطنية هو مرآة لمؤشرات الاقتصاد الكلي، لا سيما منها معدل النمو الاقتصادي ونسبة التضخم ومستوى الدين العام. فكلما ارتفع معدل النمو الاقتصادي وانخفضت نسبتا التضخم والدين العام، تحسّن سعر الصرف والعكس صحيح. ولما كانت زيادة معدل النمو عملية طويلة المدى، فإن خفض نسبة التضخم والحد من المديونية العامة تساهمان بصورة أسرع في تحسّن سعر الصرف كونهما يتوقفان على نجاح السياسات المالية والنقدية المباشرة للحكومة العتيدة.
ويتطلب تحسّن سعر الصرف أن يشمل الاقتصاد الوطني مختلف الأنشطة الاقتصادية لا سيما منها الأنشطة المُعد انتاجها للتصدير، بحيث لا تقتصر ايرادات الاقتصاد الوطني على قطاع دون سواه، لا سيما الإيرادات من الصادرات التي تُساهم في خفض عجز ميزان المدفوعات. كما تؤدي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، مع عودة ثقة المستثمرين الأجانب في الاقتصاد الوطني، الى زيادة الطلب على العملة الوطنية ويؤدي بالتالي الى تحسّن سعر صرفها مقابل العملات الاجنبية.
إلا أن الأولوية في الفترة القادمة يجب أن تكون للمحافظة على استقرار سعر الصرف لا تحقيق تحسّن فيه، ما يستدعي العمل على استقرار السياسات المالية والنقدية لا سيما ترشيد الانفاق العام وحسن إدارة الكتلة النقدية. ذلك أن أي تحسّنٍ في سعر الصرف سيكون له تداعيات على نفقات الدولة والتزاماتها وخاصةً خدمة الدين العام بالعملات الاجنبية، بالإضافة الى تداعياتها على رواتب القطاع العام والاسلاك العسكرية التي يتم تسديدها بالدولار الأميركي من ناحية، الى غيرها من التداعيات على إيرادات الدولة من ناحية ثانية.
في المقابل، جاءت باكورة المؤشرات الاقتصادية الإيجابية مع التحسن الملحوظ في الأوضاع النقدية، حيث ارتفع احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية بمقدار 300 مليون دولار منذ انتخاب رئيس الجمهورية، بحسب ما أكده حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري. فيما يستمر المصرف بالمحافظة على الاستقرار النقدي عامة واستقرار سعر صرف الليرة بشكل خاص، ويُلاقي توجه رئيس الجمهورية بالمحافظة على أموال المودعين وهو بصدد دراسة شاملة لبلورة الحل المناسب.
تأتي المؤشرات الإيجابية المشار اليها أعلاه، نتيجةً طبيعية لتبوء العماد جوزيف عون سُدة الرئاسة، وهو الذي أدى مهامه خلال توليه قيادة الجيش بحرفية عالية جنبت لبنان العديد من المخاطر. وهذه الايجابية لم تعد مجرد مؤشراتٍ مالية أو نقدية مع خطاب القسم الذي تضمن خارطة طريق لنهوض لبنان من كبوته الاقتصادية، بل أضحت اندفاعة ((Momentum لا بد أن تُساهم في إخراج الازمة اللبنانية من عنق الزجاجة التي تُراوح فيها منذ ما يزيد على الخمس سنوات.
أما وصول هذه الاندفاعة الإيجابية الى خواتيمها المرجوة لا سيما منها حل الازمة المالية والاقتصادية، فيستوجب تشكيل حكومة كفاءات قادرة على الاصلاح لإنقاذ لبنان من كبوته، حكومة تنقله الى مصاف الدول المتطورة. والمطلوب حكومة ضنينة بأموال المودعين تُعيد الثقة بمختلف القطاعات الاقتصادية وخاصة القطاع المصرفي، فإعادة الثقة كفيلة بعودة الاستثمارات المحلي منها والاجنبي. حكومة قادرة على أن تعيد للدولة هيبتها، وأن تعود معها المؤسسات الى أداء مهمها والقيام بمسؤولياتها في الدفاع عن الوطن وإعادة الإعمار.
كفى وطننا تخاذلاً وتقاعساً، لقد آن الأوان لوقف هدر الفرص وحان وقت العمل.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|