لم يكن كما يشتهيه.. وزير النقل الأميركي الجديد يفتتح أول يوم عمل له بمأساة!
الأزمة المصرفية: الإصلاحات ممر إلزاميٌ
إن لم يكن جهلاً، فمن المؤكد أنه كان تجاهلاً!
إنّ فهم جذور الأزمة المصرفية اللبنانية، كما تمّ تفصيله في الجزء الأول، يسلّط الضوء على الإخفاقات الاستراتيجية، التي أسست لنظام مالي هش غير قادر على الصمود أمام الصدمات. لكنّ الأزمات المالية ليست نتيجة قرارات قصيرة الأمد فقط، بل هي أيضاً نتاج غياب الحوكمة الفعالة، وتركّز المخاطر، والتبعية المفرطة لتحويلات المغتربين.
في هذا الجزء، سنتناول هذه الجوانب البنيوية بمزيد من التحليل، مع تسليط الضوء على الثغرات في السياسات التنظيمية وأثرها على تفاقم الأزمة.
افتقرت المصارف اللبنانية إلى نظم فعّالة لإدارة المخاطر وحوكمة قوية، ما أدى إلى تضخم ميزانياتها بأصول خطرة من دون رقابة كافية. لم تعتمد هذه المصارف على نماذج دقيقة لتقييم المخاطر المرتبطة بتوظيفاتها. وأخصّ بالذكر هنا الديون السيادية والتوظيفات لدى مصرف لبنان. وظلت، على مدى سنوات، تفتقر إلى استراتيجيات شاملة لإدارة المخاطر (Holistic Risk Management)، معتمدةً على التحليل قصير الأمد بدلاً من الاستراتيجيات طويلة الأجل.
هذا النهج جعل المصارف تتخذ قرارات عالية المخاطر من دون إدراك كافٍ لعواقبها. رغم تقديم المصارف قروضاً لأفراد ومؤسسات داخل المجتمع اللبناني، كان تركيزها المفرط على إقراض الدولة عبر شراء سندات الخزينة، سواء بالليرة أو بالدولار، من دون تحديد حد أقصى لمستوى التعرض للديون السيادية.
هذا الاعتماد المبالغ فيه على تمويل الحكومة، زاد من تعرض المصارف للمخاطر السيادية، خصوصاً في ظل تفشي الفساد والهدر المالي وتدهور الوضع المالي للدولة. في الوقت ذاته، اعتمدت المصارف على ودائع قصيرة الأجل بفوائد مرتفعة لتمويل استثمارات طويلة الأجل، ما خلق فجوة زمنية كبيرة بين آجال الالتزامات والأصول (Maturity Mismatch). هذا الخلل زاد من هشاشة النظام المصرفي، حيث كانت الأصول غير قابلة للتحويل بسهولة إلى سيولة.
إضافة إلى ذلك، عانى بعض المصارف من غياب أنظمة رقابة داخلية فعّالة، ما أدى إلى استثمار عشوائي للأموال في أصول عالية المخاطر. هذه الثغرات سمحت باتخاذ قرارات غير مسؤولة بهدف تحقيق أرباح قصيرة الأجل، في ظل ضعف الشفافية، الذي ساهم في تضارب المصالح بين بعض المصارف والجهات الحكومية أو مصرف لبنان.
كما أنّ ارتباط بعض إدارات المصارف بعلاقات وثيقة مع صناع القرار السياسي، شجّع على ممارسات غير سليمة، مثل إقراض الحكومة من دون الالتزام بشروط صارمة. افتقر بعض المصارف أيضاً إلى الاستقلالية في اتخاذ القرارات، إذ تأثرت بسياسات مصرف لبنان التي شجعت على الاستثمار في أدوات مالية عالية المخاطر.
قد وُجه جزء كبير من أصول المصارف نحو التوظيف لدى مصرف لبنان، الذي قدم فوائد مغرية مقابل ودائع طويلة الأجل بالدولار أو الليرة. ورغم جاذبية هذه التوظيفات، إلا أنّها حملت مخاطر خفية، حيث كان مصرف لبنان يعيد استخدام الأموال لسد العجز الحكومي.
إضافة إلى ذلك، أدّى شراء كميات كبيرة من سندات الخزينة بفوائد مرتفعة إلى تضخم ميزانيات المصارف، من دون وجود ضمان على قدرة الدولة على السداد. وقد كانت هذه الأصول غير قابلة للتحويل بسهولة إلى سيولة، ما جعل المصارف أكثر هشاشة. بدلاً من استثمار الأموال في الاقتصاد الحقيقي أو المشاريع الإنتاجية، اعتمدت المصارف على أدوات مالية تنطوي على مخاطر متراكمة ولا تسهم في خلق قيمة اقتصادية مضافة.
رغم دوره كجهة منظمة، لم يفرض مصرف لبنان معايير صارمة لإدارة المخاطر أو الحد من التركز في الأصول. بل شجّع على سياسات زادت من تفاقم المخاطر، مثل الهندسات المالية وسندات الخزينة (أي تمويل عجز الخزينة).
من جهة أخرى، تجاهلت المؤسسات المصرفية المؤشرات التحذيرية المرتبطة بتدهور وضع الدين العام وتراجع احتياطيات مصرف لبنان، وكانت هذه التحذيرات تأتي من صندوق النقد الدولي ومؤسسات التصنيف الإئتماني العالمية التي تعرف بموضوعيتها ومصداقيتها. كما أن غياب الشفافية جعل من الصعب على المستثمرين والمودعين تقييم الوضع الحقيقي للمصارف.
مع بدء تراجع تدفقات الدولار، عجزت المصارف عن تحويل أصولها الخطرة إلى سيولة لمواجهة طلبات السحب.
ضعف الحوكمة وإدارة المخاطر أدى إلى فقدان الثقة لدى المودعين والمستثمرين، ما عجّل بانهيار النظام المصرفي. الإفراط في تمويل الدولة جعل المصارف تواجه أزمة خانقة عندما عجزت الحكومة عن الوفاء بالتزاماتها.
في المحصلة، افتقار بعض المصارف اللبنانية إلى إدارة مخاطر فعّالة وحوكمة قوية، دفعها إلى تبني نموذج غير مستدام يعتمد على أصول خطرة مرتفعة العائد لكنها غير قابلة للتحويل بسهولة إلى سيولة. هذا النهج قصير الأمد أدّى إلى تضخم ميزانياتها بأصول سيادية غير مستقرة وتوظيفات لدى مصرف لبنان، ما جعل النظام المصرفي بأكمله عرضة للانهيار مع أول أزمة حقيقية.
الإفراط في الاعتماد على التحويلات الخارجية
اعتمدت المصارف اللبنانية بشكل كبير على تحويلات المغتربين كدعامة أساسية للنظام المالي، من دون بناء احتياطيات مستدامة أو تطوير استراتيجية طويلة الأمد. تاريخياً، شكلت تحويلات المغتربين نسبة كبيرة من تدفقات العملات الأجنبية إلى لبنان، حيث بلغت قبل الأزمة حوالي 7-8 مليارات دولار سنوياً، أي ما يعادل نحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي.
ساهمت هذه التحويلات في دعم احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، تغذية النظام المصرفي بودائع بالدولار، وتأمين السيولة اللازمة للأسر اللبنانية لتمويل الاستهلاك والخدمات.
لتعزيز تدفق التحويلات، قدّمت المصارف فوائد مرتفعة جداً على الودائع بالدولار، ما شجع المغتربين على إبقاء أموالهم في النظام المصرفي. استغلّت المصارف استقرار سعر صرف الليرة وثقة المغتربين بالنظام المالي لتقديم تسهيلات مصرفية، مثل حسابات بالدولار وخدمات مصرفية مميزة، لجذب المزيد من الأموال.
إلا أنّ هذه الأموال لم تُوظّف في استثمارات إنتاجية أو مشاريع بنية تحتية طويلة الأمد. بدلاً من ذلك، استُخدمت لتغطية العجز الحكومي ودعم سياسات مصرف لبنان، مما عزز الطبيعة الريعية للاقتصاد اللبناني.
الفشل في بناء احتياطيات كافية
رغم أهمية هذه التدفقات، فشلت المصارف في بناء احتياطيات كافية لمواجهة أي انكماش محتمل في التحويلات. هذا الاعتماد على تدفقات خارجية جعل النظام المصرفي عرضة لصدمات خارجية وسياسية. مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية، تراجعت ثقة المغتربين بالنظام المصرفي اللبناني، ما أدى إلى توقف التحويلات المباشرة إلى المصارف. هذا الانخفاض الحاد في التحويلات تسبّب في نقص كبير في العملات الأجنبية، ما سرّع من حدة الانهيار المالي.
فقد المغتربون الثقة في النظام المصرفي بعد فرض قيود صارمة على السحب والتحويلات، وهو ما حرم المصارف من أحد أهم مصادر الدولار. اعتماد المصارف على التحويلات بدلاً من استثمار الأموال في تطوير الاقتصاد أو إقامة مشاريع مستدامة، أظهر ضعف النظام. كما أنّ هذه التحويلات، رغم أنها أعطت انطباعاً زائفاً باستقرار النظام المالي، لم تُعالج المشكلات البنيوية في الاقتصاد.
مع توقف التحويلات، انهار النظام المصرفي، إذ لم تكن المصارف تمتلك السيولة أو الأصول الكافية لتعويض الخسائر. هذا الاعتماد قصير النظر على التحويلات، بدلاً من تطوير الاقتصاد أو بناء احتياطيات مستدامة، كشف هشاشة النظام المالي اللبناني وأدى إلى الانهيار الحالي.
افتقار لأنظمة تقييم المخاطر
على المستوى الداخلي، افتقرت المصارف إلى أنظمة فعالة لتقييم المخاطر المرتبطة بتوظيفاتها (أو تجاهلت وجود هذه المخاطر)، سواء لدى الدولة أو مصرف لبنان. كما غابت أدوات الرقابة الداخلية التي تمنع التركز المفرط في أصول معينة، إلى جانب ضعف الحوكمة الذي سمح بتضخم الميزانيات بأصول خطرة، مثل سندات الخزينة والتوظيفات لدى مصرف لبنان، من دون وضع حدود واضحة للمخاطر. إضافةً إلى ذلك، افتقرت المصارف إلى إدارة مستقلة قادرة على مقاومة الضغوط الخارجية، بما في ذلك الضغوط السياسية.
هذا القصور في البنية التحتية لإدارة المخاطر على المستوى التشغيلي والتنظيمي أدى إلى تفاقم الأزمة. لم يكن الإشكال في تجاهل الإشارات الخارجية فحسب، بل أيضاً في غياب نظام داخلي قوي يقيّم المخاطر ويضع سياسات تمنع التركز المفرط. هذه الثغرات تمثل قصوراً مزدوجاً: الأول استراتيجي يتعلق بغياب الرؤية الشاملة للنظام المالي والاقتصادي، والثاني تشغيلي يتعلق بضعف البنية الداخلية لتنظيم العمليات وإدارة المخاطر.
معاً، ساهم هذان العاملان في انهيار شامل للنظام المصرفي، حيث تداخل غياب الرؤية مع غياب الأنظمة الفعالة لإدارة المخاطر، مما جعل المصارف عرضة لأي هزة اقتصادية محلية أو عالمية.
هذا الاعتماد الكبير على الودائع وعدم تنويع مصادر التمويل، أدى إلى هشاشة القطاع المصرفي اللبناني وزيادة تعرضه للصدمات. علاوة على ذلك، لعب مصرف لبنان دوراً إشكالياً، إذ كان بمثابة “راعٍ” للبنوك بدلاً من كونه منظماً صارماً يفرض القواعد بحزم. هذا النهج غير الحازم ساهم في تفاقم الأزمة، حيث لم تُتخذ الإجراءات الوقائية اللازمة لمعالجة الاختلالات البنيوية في الوقت المناسب.
إصلاح النظام المصرفي اللبناني يتطلب تغييرات جذرية، تبدأ بتعزيز المرونة وتنويع مصادر التمويل، وتفعيل دور مصرف لبنان كمنظم قوي ومستقل يفرض القواعد بحزم. فقط من خلال هذه الإصلاحات يمكن ضمان استقرار النظام المالي وتجنب تكرار الأزمات في المستقبل.
محمد فحيلي - أساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|