المحسوبيّة في لبنان شيطان بثلاثة رؤوس... فمن طلب العلا دبّر "واسطة"
الجاهل قد ينام على حرير والمتعلم مفارشه التراب، فليس مهماً ما تعرف بل مَن تعرف، فأنت في دولة المحسوبيات والواسطة، أنت في بلد يكون فيه الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب. ففي لبنان من طلب العلا دبر "واسطة" أو دخل في سباق المحسوبيات.
الواسطة والمحسوبية وجهان لعملة واحدة، وإن تعددت الأسماء لكن المعنى واحد، تتخذ أشكالا متعددة وطرقا مختلفة، لتصب في النهاية في نفق واحد، وهو الرغبة في الحصول على منفعة أو مصلحة، قد تكون على حق أو من غير حق. وأبرز أشكال الواسطة تتجسد في استغلال صلة القرابة والصداقة لمنفعة شخصية، مما يهدد الصالح العام مقابل المصالح الخاصة، وينشر معاني الفساد بالمجتمع.
الجدير بالذكر أن المحسوبية تعني تفضيل الأقارب أو المحاسيب أو الأزلام، بسبب قرابتهم وليس كفاءتهم، فيكون عندئذ المسؤول متهماً بالمحاباة، وقد عرّفها "ريتشارد جراهام" بأنّها مجموعة من الأفعال القائمة على مبدأ "خذ هناك أعط هنا"، حيث تتميز غالباً "بأنظمة المبادلة" بين الأحزاب والمحاسيب.
تجذر مفهوم الواسطة أو المحسوبية، أو كما يحب البعض تسميته فيتامين "واو" في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بداية من الشؤون السياسية وصولا الى توفير السلع، ومع التدقيق في الأمر يتضح أن الواسطة لا تقتصر على المؤسسات أو الإدارات العامة أو الخاصة، بل تعاطي الغالبية مع المعني، وكأنه جزء لا يستقيم الكل إلا به، غاضين الطرف عن الآثار السلبية لتفشي ظاهرة المحسوبية علي السياسات الاقتصادية والاجتماعية .
ففي دولة المحسوبيات لبنان، تكاد تكون المحسوبية هي الآلية الوحيدة المعتمدة في تقاسم السلطة وفي التعيينات الوظيفية، ونادراً ما نرى توظيفاً لمرشحين مبنياً على الكفاءة والخبرات الشخصية، حيث ينظر إلى المؤهلات التعليمية، على أنها تؤدي دوراً ثانوياً في قرارات التعيين من جانب أصحاب العمل، فالقطاع العام في لبنان يعاني من مشاكل بنيوية، بسبب ارتفاع عدد العاملين نتيجة المحسوبيات والطائفية، فهناك آلاف الوظائف الوهمية في لبنان في القطاع العام، وهناك آلاف المتخرجين والمهندسين وحملة إجازات لا يجدون فرصة عمل، لأن المعبر إلى الوظيفة العامة بأغلبه، هو معبر الواسطة والمحسوبيات و "الليستات" والوقوف على أبواب النواب والوزراء والأحزاب والزعامات السياسية، وهذا يدمر الإدارة العامة، لأن الموظف يصبح مستلحقا وتابعا.
تجدر الإشارة إلى أن كلمة المحسوبية nepotism الإنكليزية، أصلها لاتيني، ومشتقّة من كلمة nepos والتي تعني nephew أي ابن الأخ أو الأخت.
المحسوبيات مصطلح ليس بغريب في لبنان، فالمحسوبيات شيطان بثلاثة رؤوس: المحسوبية السياسية، فلولا السلطة السياسية الأم لما كان هنالك محسوبية في الاساس، فكل محسوب من المحاسيب والاتباع في الادارات المدنية وغير المدنية، مشفوع بدعم جهة سياسية معينة، هو خادم لكل تعليماتها، لأنها تعتبر نفسها ولية نعمته ومصدر "لقمة عيشه" و "عيش عياله"، من خلال الوظيفة العامة التي اوصلته اليها، ولكن الهدف الاهم والغرض الاول من وراء كل هذه النعم السياسية هو الانتخابات، نيابية او بلدية او غيرهما، أما المحسوبية الطائفية – المذهبية وهي الأشد ظلامة وجهلا، هي الممر والمصيدة الحقيقية لبسط النفوذ على "اولاد الطائفة"، فأبالسة الطائفية يمتلكون من الحنكة والدهاء في رسم صورة ثابتة لا تتبدل في مخيلة اتباعهم، ان لا معين لهم ولا حول ولا قوة الا بزعماء طوائفهم، فهم "الحماية" لابناء وبنات الرعية، ونأتي غلى لب القضية، المحسوبية المالية – المادية وهي القوة الخفية، فالمال هو القاسم المشترك بين كل اللاعبين الكبار والصغار على مسرح السياسة والادارة اللبنانية، وهو احد اهم السبل والدروب الى السلطة والتسلط.
الأستاذ أحمد البضن خبير محاسبة مجاز، وعضو نقابة خبراء المحاسبة في لبنان، أكد أن "أهم عامل يساعد في الحصول على الوظيفة في لبنان إن كانت خاصة أو عامة هو الوساطة أو المحسوبيات أو المحاصصة، ونعني اعتبار القرابة العائلية أو السياسية أو المذهبية في تحقيق مصلحة إن كانت وظيفة أو عملا أو مشروعا أو إنجاز معاملات، وجعل الحسب والنسب في المقام الأول، ونرى أنها تمثل 60% من الوظائف في لبنان ان كان في القطاع العام أو الخاص وهي نسبة مرتفعة جدا".
وأضاف البضن "هذه الحالة أدت إلى انتشار الفساد المالي والإداري وانعدام الأمان والإتقان، وقد تأثر المجتمع اللبناني بها، وهذا يؤدي إلى التبعية وخاصة السياسية والمذهبية، ونرى أن الحل هو تعزيز أطر المؤسسات في التشغيل كمجلس الخدمة المدنية، والعمل على مكافحة الفساد ووضع قوانين صارمة في ما يخص الواسطة والمحسوبية والمحاصصة ومن يعمل بها لكلا الطرفين، وكذلك الرقابة الشديدة على الدوائر الحكومية".
تبين الدراسات أن انتشار هذه الظاهرة بهذا الشكل الفاضح، يعود لعدة أسباب منها:
- تحقيق المصالح المتبادلة بين الأطراف الثلاثة في موقف السلطة.
- تأثير القيم الاجتماعية السائدة (مثل الولاء العائلي أو العشائري) وإعادة إنتاجها دون استجابة للمتغيرات الحديثة.
- انتشار الفقر والظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة.
- عجز المؤسسات الحكومية عن تقديم الخدمات المنوطة بها بسبب البيروقراطية والترهل الوظيفي وقلة الكفاءة، مما يدفع المواطنين إلى البحث عن واسطة، لتسهيل الحصول على بعض الخدمات.
- انتشار البطالة خاصة بين الشباب.
- تكاسل بعض الموظفين من رؤساء ومرؤوسين وإهمالهم وتقصيرهم في أداء المهام الوظيفية الموكلة لهم.
- غياب الأنظمة والتعليمات الواضحة للجمهور، وعدم وعيهم بها وعدم وجود جهات موثوق بها يمكنهم اللجوء إليها، لتقديم شكاوى في حالة عدم تقيد الموظفين بهذه الأنظمة والإجراءات.
- غياب الثقة بنزاهة القضاء، بالإضافة إلى تعقيدات وتكلفة التقاضي، وعدم الثقة بأجهزة الضبط الاجتماعي.
فبعد هذه الأسباب التي ذكرت تظهر عندنا آثار للواسطة والمحسوبية، منها ضياع حقوق الموهوبين من أفراد المجتمع، هجرة العقول والكفاءات، تعزيز حالات الفقر والتهميش في المجتمع ، فقدان الثقة في النظام الاجتماعي السياسي، وبالتالي فقدان شعور المواطنة والانتماء. وتركز ثروات البلاد في يد فئة محددة، مما يزيد الفقر ويساهم في هروب الاستثمارات الوطنية.
تتطلَّب مكافحة المحسوبية اتباع منهج يشمل استراتيجيات عدة لضمان تطبيق العدالة، والحد من الفساد والواسطة، ويعَد تشريع القوانين الرادعة والصارمة أمراً مهِماً أيضاً، إلى جانب محاسبة المتورطين بالفساد وممارسات الواسطة والمحسوبية، بالإضافة إلى تشديد الرقابة على القرارات التي يتحِذها المسؤولون ، إضافة إلى ضرورة نشر الوعي بالعواقب السلبية للفساد والمحسوبية أخلاقياً واقتصادياً في مؤسسات العمل، والمؤسسات التعليمية، ووسائل الإعلام وعقد الدورات التدريبية.
المحسوبية فيروس اجتماعي فتاك، يهدد المجتمع والدولة بالانهيار الكبير، وأصبح من المجدي التفكير في مرحلة جديدة لا تعتمد على استخدام هذا الأسلوب، فلا خَلاص للبنان إلا بالقضاء على التعيينات الزبائنية، وبإدارة حكومية شفّافة تعتمد على الكفاءة والمعيار الواحد، عِوض المحسوبية وتعيين الأقارب والأزلام، عسى أن تنجح الحكومة الجديدة برئاسة القاضي نواف سلام، في إنقاذ لبنان قبل فوات الأوان، ويضيع الحلم بلبنان العدل والمساواة من أجل تنمية مستدامة وخدمة لجميع أفراد المجتمع بدون تمييز أو استثناء.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|