“كلّنا إرادة”: إفناء الودائع وإفلاس المصارف
انقلب عدد من البارزين في “كلّنا إرادة” على وزير الاقتصاد عامر البساط بعدما قال كلاماً عمليّاً عن المنهج الذي ينبغي انتهاجه في إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتوزيع الخسائر.
ما طرحه بساط هو “حلّ تشاركيّ” للأزمة يراعي هدفين: إنصاف المودعين وتعافي القطاع المصرفي، ولا يُفرض فرضاً، بل يتمّ التوصّل إليه بالتشاور مع المعنيّين به. وهذا كفيل بإغضاب العديد من الوجوه البارزة في “كلّنا إرادة”، الذين أوصلهم عداؤهم مع المصارف إلى حدّ تبنّي برنامج لا يمكن أن يوصل إلّا إلى تدمير البنوك والمودعين معاً، لإقامة نظام مصرفي “على نظيف”.
جزءٌ من الغضب يعود إلى عزوف البساط عن الظهور في برنامج ألبير كوستانيان، أحد أعضاء مجلس إدارة “كلّنا إرادة” وأحد أبرز وجوهها، واختياره الظهور في برنامج “صار الوقت” مع مارسيل غانم، وهو مصنّف في موقع الخصومة مع الجمعية والدفاع عن القطاع المصرفي. لكن بعيداً عن الخوض في تلك الخصومة وفي كلّ خطايا البنوك، وما أكثرها، كانت محسوبةً خطوة بساط بأخذ مسافة عن “كلّنا إرادة”، أو بعض رموزها على الأقلّ.
برنامج “كلّنا إرادة”
يقوم برنامج هؤلاء على أربعة أسس ينادون بها في الليل والنهار:
1- أنّ الأزمة ليست نظامية، بل هي عملية احتيالية من المصارف (ومصرف لبنان؟).
2- أصول الدولة مقدّسة، ولا يمكن استخدامها في حلّ الأزمة.
3- الودائع ليست مقدّسة، لأنّ المودعين لا يشكّلون سوى نسبة ضئيلة من الشعب، ولا يمكن استخدام أموال الشعب لتغطية خسائرهم (ولا بأس بإفلاسهم أو مصادرة أموالهم باعتبارهم إمّا فاسدين وإمّا بورجوازية ظالمة للبروليتاريا).
4- الحلّ الوحيد للأزمة أن تتحمّل المصارف الخسائر. ولا سبيل لإعادة الأموال للمودعين إلّا باستعادة الأموال التي نهبها أصحاب المصارف والفاسدون.
في هذا البرنامج مشكلتان:
1- أنّه ينطلق من تشخيص غير صحيح، بالوقائع والعلم والتاريخ.
2- أنّ الحل المطروح غير واقعي ولا ينتج شيئاً. بل إنّه يقود عملياً إلى إفناء الودائع في الحرب على المصارف.
جوهر الخلاف
في التشخيص، يصوّر هؤلاء الأزمة وكأنّها سرقة من المصارف للمودعين، وواجب الدولة ينحصر بملاحقة المصارف، من دون أن تتحمّل أيّ مسؤولية ماليّة. وهذا خلاف الحقيقة.
يمكن، على سبيل المقارنة والمقابلة، العودة إلى تشخيص بساط نفسه للأزمة، الذي عبّر عنه في كتابات ومقابلات في سنوات الأزمة الأولى. يقول بساط إنّ إنتاج الاقتصاد اللبناني التراكميّ بين عامَي 2004 و2017 بلغ 500 مليار دولار تقريباً، فيما بلغ الاستهلاك في هذه الفترة 650 مليار دولار، وهو ما يعني أنّ الفجوة بينهما 150 مليار دولار. لا شكّ أنّ البنوك لعبت دوراً أساسياً في تحويل هذه الفجوة إلى أزمة من خلال دور الوساطة الماليّة الذي قامت به للاستدانة وتمويل هذا الاستهلاك المفرط، ولا بدّ من تحميلها المسؤولية.
لكنّ هناك مسؤولية أكبر تقع على القطاع العامّ، متمثّلاً بالحكومة ككلّ ووزارة المالية ومصرف لبنان، لأنّ الإنفاق الحكومي كان يشكّل جزءاً طاغياً من الناتج المحلّي الإجمالي، وفيه يتركّز الهدر وأخطاء السياسات المالية والنقدية (تثبيت سعر الصرف) والفساد.
لنأخذ الواقع كما هو اليوم. الرقم الذي ذكره حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري في مقابلته الأخيرة لحجم المطلوبات على مصرف لبنان للمصارف، يصل إلى 84 مليار دولار، فيما كلّ الودائع الباقية اليوم لا تتجاوز 86 مليار دولار. هذا يعني بكلّ وضوح أنّ الفجوة باتت كلّها مصرف لبنان، ولو أنّه يستطيع الالتزام بسداد ما عليه لما كانت هناك أزمة مصرفية اليوم.
لإيضاح الصورة أكثر، هذه الـ84 مليار دولار المسجّلة كمطلوبات على مصرف لبنان، هي في المقابل مسجّلة كموجودات في دفاتر المصارف. ولو أنّها كانت موجودات ذات جودة عالية، لا متعثّرة ولا معدومة، لكانت ملاءة المصارف كافية، ولكان بإمكانها أداء الودائع الباقية حتى آخر سنت.
لكنّ المشكلة أنّ مصرف لبنان هو المتعثّر الأكبر في هذه الدولة، وتعثّره أكبر بمرّتين ونصف من تعثّر الدولة نفسها. ومعروف كيف وصل مصرف لبنان إلى هذه الحال. فقد كان يعطي الفوائد الخرافية للمصارف، ويقرض الدولة بلا حساب، ويسدّد الاستحقاقات، ويشتري اليوروبوندز، ويموّل الدعم. بكلام آخر، ذهبت هذه الأموال لتمويل إنفاق الدولة على مواطنيها، ولتمويل الفساد.
فجوة مصرف لبنان
المشكلة في كلّ الخطط لحلّ الأزمة، منذ خطّة “لازارد” ومشتقّاتها، أنّها تتعامل مع الفجوة المالية في مصرف لبنان كأمرٍ واقعٍ لا حلّ له إلّا بشطب المطلوبات المستحقّة للبنوك، مع وضع سقف لمساهمة الدولة في سدّ فجوته لا يتجاوز إصدار سندات بـ2.5 مليار دولار فقط.
الواقع أنّ حال الفجوة المالية لم يعد بالسوء الذي كان عليه قبل سنوات. فملاءة مصرف لبنان تحسّنت بشكل ملحوظ، ليس فقط بفعل التوقّف عن إقراض الدولة وارتفاع الاحتياطات الأجنبية، بل أيضاً بفعل ارتفاع أسعار الذهب، التي حسّنت من قيمة موجوداته الأجنبية بشكل كبير.
ويمكن لملاءته أن تتحسّن أكثر إذا اعترفت الدولة صراحة بالديون التي أخذتها من مصرف لبنان، والتي تصل إلى 16.5 مليار دولار، وهي ناجمة عن تسهيلات السحب على المكشوف، منذ أن بدأ مصرف لبنان اعتباراً من نهاية عام 2007 بدفع المستحقّات نيابة عن الحكومة اللبنانية من احتياطاته بالعملات الأجنبية. ولا بأس أن تعترف الدولة بهذا الدين أو تجري تسوية له، فربحها من الأزمة يناهز 100 مليار دولار حتّى اليوم.
إذ إنّها تخلّصت من ديونها بالليرة اللبنانية بفعل انهيار سعر الصرف، بعدما كانت تفوق 60 مليار دولار على سعر 1,550 ليرة للدولار، وتخلّصت من خدمة الديون التي كانت تزيد على مليارَي دولار سنوياً، وستتخلّص من جزء كبير من أصل اليوروبوندز من خلال التسوية مع الدائنين (الهيركت)، وتخلّصت من جزءٍ كبيرٍ من الرواتب والأجور بفعل تآكل قيمتها.
الحلّ المستحيل
المشكلة الأخرى تكمن في عدم واقعية الحلّ، لأنّ ما يقولونه عمليّاً هو أنّ إعادة الودائع يجب أن تتوقّف حصراً على سجن رؤساء المصارف، ومصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة في الداخل والخارج، وبيع أيّ شقة يمتلكها أحدهم في دبي أو باريس. وهذا الشرط مستحيل. فحتى لو توفّرت أفضل الظروف السياسية لتنفيذه، فإنّ مساره القضائي يستغرق عقوداً “لتشليح” أصحاب المصارف أموالهم وأصولهم!
ثمّ ما هي تقديراتهم لحجم الأموال التي يمكن استردادها من أصحاب المصارف؟ وكم تغطّي من الودائع الباقية والبالغة نحو 84 مليار دولار؟ 10%؟ أم 5%؟ أم 2%؟ هذه ليست خطّة. إنّها بأفضل الأحوال، وإذا حسنت النوايا، تعليق إعادة الودائع على المستحيل.
مبادىء الانطلاق
لذلك لا بدّ للمسار الواقعي لحلّ الأزمة أن ينطلق من ثلاثة مبادئ:
1- التشارك في تحمّل الخسائر على أساس العدالة بين الأطراف الثلاثة المعنيّة بها أساساً: الدولة والمصارف والمودعين.
2- الواقعيّة والمصارحة، فلا داعي لخداع المودعين بأنّهم سيستردّون أموالهم كاملة. ولا بدّ للمستفيدين من الأزمة أن يتحمّلوا قسطاً من الحلّ، خصوصاً الشركات الكبرى التي استفادت من سداد القروض بالليرة اللبنانية أو عبر تجارة الشيكات.
3- فكّ مسار إعادة الهيكلة عن المسار القضائي. فلا يمكن بأيّ شكلٍ من الأشكال ربط مسار إعادة الودائع بشرط شبه مستحيل وبلا أفق زمني لاستعادة الأموال المنهوبة. فهذا المسار القضائي مهمّ، لكنّه ليس من شأن المودعين، ويجب أن لا تكون حقوقهم مرهونة به. والأموال المنهوبة تعود إلى الدولة، لا إلى المودعين. ثمّ إنّ أموال المصارف الخاصّة معروف حجمها على وجه التقريب، وإن تكن بحاجة إلى تدقيق، ومهما تكن فلا يمكن أن تغطّي 10% من الودائع.
بإمكان الحكومة الانطلاق بحلّ واقعي وعادل إذا تحرّرت من الأيديولوجيات والصراعات. فليس المطلوب قتل المصارف ولا إفناء الودائع.
عبادة اللدن - اساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|