فضيحة ترامب-زيلينسكي: إنذار إلى حلفاء واشنطن
في السنوات الأربع المقبلة من عهد الرئيس دونالد ترامب لن يتسنّى للعالم أن يغمض عينيه ولو لحظة. سيحدث جديد أو مفاجأة مع فجر كلّ يوم. فجأة تتبخّر كلّ المسلّمات والقواعد والأصول، وتتربّع الأنا العليا للحاكم المطلق والأنانيّة الشخصية والمصالح الفوريّة على ما عداها. لا وجود لصديق دائم أو حليف تاريخيّ. والخصم اللدود يصير رفيقاً حسب المزاج. الارتجال سيّد الموقف. والانتقائية تغلب التكتيك والاستراتيجية.
يُنسب إلى الرئيس المصري الراحل حسني مبارك قوله إنّ “المتغطّي بالأميركان عريان”. دونالد ترامب لم يوفّر فرصة إلّا وأثبت صدق هذه المقولة. كندا ليست بلداً جاراً كامل السيادة، بل مشروع ولاية أميركية جديدة. باناما ليست دولة مستقلّة، بل إدارة محلّية لقناة مائية أميركية. غزّة ليست موطناً لشعب سُرقت أرضه وحقوقه وتاريخه، بل شاطىء سياحي للبسْط والانشراح، يستثمره الأميركيون ويُخصّص للهو الأغنياء فقط.
لولا الدولة العميقة الأميركية لما كان فولوديمير زيلينسكي رئيساً. هذا الممثّل الكوميدي كان خياراً أميركياً وأوروبياً صرفاً. اضطلعت واشنطن بدور كبير في إحداث التغييرات الكبيرة في بلاده منذ عام 2014 لإفساح المجال أمام إخراج كييف من فلك موسكو والالتحاق بالغرب. ولولاها لأطاح قيصر الكرملين فلاديمير بوتين كامل الجغرافيا الأوكرانية ومعها مولدوفا وجورجيا وأرمينيا، وربّما ليتوانيا وأستونيا ولاتفيا، وأعادها جميعاً إلى الحضن الروسي.
راهن الممثّل على قدراته التمثيلية لإقناع البيت الأبيض بعدم التخلّي عنه وعن بلاده في اللحظة الحرجة. لكنّ ترامب لم يكلّف نفسه عناء الاستماع إليه. حوَّل اللقاء الأوّل مع ضيفه إلى مباراة “ملاكمة”. قرّر الحسم من الجولة الأولى بضربة قاضية زلزلت حكم زيلينسكي ومصير أوكرانيا ومستقبل أوروبا. أذلّه أمام المشاهدين في كلّ العالم. جعل الإعلام والشاشات وسيلة تشهير وابتزاز تظهره ملكاً للدنيا يتعالى على البشر والدول والألقاب والمناصب.
نهاية حتميّة
مجمل الحديث في المكتب البيضاوي بين الثنائي الأميركي والزائر الأوكراني يمكن تلخيصه بعبارة واحدة: من أنت يا زيلينسكي لتقرّر أين تكمن مصلحة أميركا العظيمة. لا شأن لك في كيف ننظر إلى مستقبلك ومستقبل بلادك. أنت أداة تنفيذ وحسب، ولا يحقّ لك أن تعترض على إرادة ملك العالم دونالد ترامب ومشيئته. أنت ليس عليك سوى تقديم الشكر والطاعة لأميركا… حتّى الامتعاض أو النطق كانا ممنوعين من الصرف. عقابه الإهانة والطرد الفوري من “الجنّة” الأميركية.
نقلت شبكة “فوكس نيوز” عن مسؤولين في البيت الأبيض أنّ “زيلينسكي لم يغادر البيت الأبيض لأنه أراد ذلك، بل لأنّ ترامب طرده”.
قبل وصوله إلى البيت الأبيض، كان الرئيس الأوكراني أمام خيارين، كلاهما يقودان إلى نهايته الحتمية: التوقيع على اتّفاق أرباح التعدين والموانئ وفق الشروط الأميركية التي لا تضمن توفير الحماية الأمنيّة والدعم العسكري، وهو ما يبقيه تحت هاجس الخوف من موسكو، أو التعرّض للانتقام الأميركي إذا ما رفضت كييف التوقيع. وبالفعل لاحت ملامح هذا الانتقام بمنع تدفّق الدعم العسكري، وقطع الوصول إلى خدمة الاتّصالات عبر الأقمار الصناعية في “ستارلينك” التابعة لإيلون ماسك، وتسريع محادثات السلام الثنائية مع بوتين في غياب الأوكرانيين.
سبق للرئيس الأوكراني أن وافق على منح حقوق التعدين واستثمار المعادن النادرة مقابل مساعدة أمنيّة مستقبلية ودعوة إلى الانضمام إلى حلف “الناتو”. لكنّ ترامب قلب المفهوم رأساً على عقب، مدّعياً أنّ موارد أوكرانيا وبنيتها التحتية هي تعويض عن المساعدات التي تبرّعت بها أميركا فعلاً خلال سنوات الحرب.
تحسّس الرّقاب
يريد “الجشع” الأميركي تحويل 50 في المئة من أرباح الدولة المستقبلية من الموارد الطبيعية والبنية التحتية مثل الموانئ، إلى صندوق استثمار جديد تملكه حكومة الولايات المتحدة. وستستمرّ المساهمات حتى يصل الصندوق إلى 500 مليار دولار، وهو رقم مضخّم كثيراً وبعيد عن الواقع ويعادل ضعفَي الناتج القومي الأوكراني، ادّعاه ترامب وقال إنّ أميركا أنفقته على المساعدات لأوكرانيا في السنوات الثلاث الماضية.
سداد هذا المبلغ، بالمعدّلات الحالية لدخل الدولة التي أنهكتها الحرب والفساد المستشري، يُبقي الشعب الأوكراني قيد الرهن المالي لمئات السنين. وهذا كفيل بإحداث ثورات غير ملوّنة في أوكرانيا تطيح بما بقي من أخضر فيها، ولن ترحم كلّ من وقّع اتّفاق الذلّ المهين الذي ينهب موارد الدولة ولا يوفّر لها في المقابل الأمن ولا السيادة.
ما حدث في البيت الأبيض يوم الجمعة ليس حادثاً عابراً وحسب، بل هو رسالة ترامبية واضحة للحلفاء قبل الخصوم بأنّ روما الجديدة وقيصرها ليس لديهما أصدقاء أو حلفاء، بل لديهما أدوات لتحقيق أهدافهما فقط لا غير، لذا يمكن التخلّي عنهم بسهولة عندما تقلّ فائدتهم. حاجة أميركا القصوى اليوم هي عزل الصين وحشرها في الزاوية لإحباط صعودها الاقتصادي والتنافسيّ المدوّي. وهكذا يصير التقارب المصلحيّ الأميركي مع موسكو لإبعادها عن بكين، أغلى بكثير من أوكرانيا وساكنيها ومعاناتهم الإنسانية.
استراتيجية ترامب واضحة لا لبس فيها تقوم على صياغة نظام عالمي جديد يتّسم بالأحاديّة والهيمنة الاقتصادية والتقنيّة والتجارية للولايات المتحدة على العالم عبر تنفيذ مبدأ “أميركا أوّلاً” القائم على تقديم المصالح الأميركية على الحلفاء والأصدقاء. استراتيجية كهذه لا تقيم وزناً للتعاون المتعدّد الأطراف، واحترام سيادة الدول الذي تأسّس في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
أميركا الجديدة تعمل كما لو أنّ لها “حقوقاً خاصّة” في تحديد مصير الدول الأخرى، حليفة كانت أم عدوّة، وعليه بات على من يصنّفون أنفسهم في خانة الأصدقاء الشروع في تحسّس رقابهم.
أمين قمورية -اساس
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|