الصحافة

هدر الطعام في رمضان: إسراف أم فرصة لإعادة توزيع الفائض؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

حين يحل شهر رمضان، تتغير الإيقاعات اليومية، ويعيش الناس طقوساً تحمل في طياتها أبعاداً روحية واجتماعية تتجاوز حدود الامتناع عن الطعام والشراب. يتحول الصيام إلى لوحة تتداخل فيها التقوى مع العادات، والزهد مع الإسراف، فتبدو الموائد وكأنها ساحات استعراض للوفرة، حيث تتكدس الأطباق وتتراكم الأصناف، في مشهد يثير الدهشة والتساؤل معاً: كيف لشهر الصيام والاعتدال أن يصبح مناسبة يزداد فيها التبذير ويبلغ الهدر مستويات غير مسبوقة؟

لذلك، تتجلى المفارقة بوضوح في التناقض بين ما يدعو إليه الشهر الفضيل من قيم العفة والاقتصاد في الاستهلاك، وبين الواقع الذي يشير إلى أن رمضان، بدلاً من أن يكون شهر ضبط النفس، يتحول إلى موسم للتبذير المفرط، وكأن الموائد صارت ساحة لمنافسة غير معلنة بين العائلات في تقديم أشهى وأغنى المأكولات، دون مراعاة الكمية أو الحاجة الفعلية. هذا النمط السلوكي يجعل الطعام المهدر ظاهرة تتكرر يومياً، حيث ينتهي الأمر بأطنان من الأطعمة المتبقية في القمامة، في مشهد يعكس خللاً عميقاً في ثقافة الصرف والتخطيط الغذائي.

لكن ما يجعل الأمر أكثر مأسوية هو أن هذا التفريط يحدث في ظل واقع اقتصادي يرزح فيه أكثر من 70% من اللبنانيين تحت خط الفقر، وفق الإحصاءات الحديثة، حيث تعاني آلاف العائلات من انعدام الأمن الغذائي، ولا تجد قوت يومها إلا بشق الأنفس. كيف يمكن تفسير هذا التباين الصارخ بين موائد تتكدس فيها النعم حتى الفائض، وبيوت لا تجد لقمة تسد بها جوع أطفالها؟ أليس في هذا الواقع تجسيد فاضح للفجوة بين الوفرة والاحتياج، بين الغنى الفائض والفقر المدقع؟

في المقابل، فإن أسباب هذا التبديد كثيرة ومتداخلة، بعضها يرتبط بالعادات والتقاليد، حيث تعتبر الولائم الرمضانية جزءاً من ثقافة الكرم، ما يجعل البعض يبالغ في إعداد الاصناف خشية أن يُتهم بالبخل، في حين يتعلق بعضها الآخر بعدم التدبير السليم للإنفاق، حيث يتم إعداد كميات تفوق الحاجة دون التفكير في كيفية استثمار الفائض لاحقاً. يضاف إلى ذلك ثقافة الاستهلاك التي تعززها الإعلانات والعروض الترويجية، فتدفع المستهلكين إلى شراء كميات أكبر مما يحتاجونه، وكأن السفرة الرمضانية لا تكتمل إلا بمشهد الامتلاء والتخمة.

وفي ظل هذه الصورة المقلقة، يبرز التساؤل الأساسي: كيف يمكن التعامل مع حصص الطعام المتبقية بطرق أكثر وعياً وإنسانية، بحيث يتحول من مشكلة إلى فرصة؟ كيف يمكن تحويل هذا الهدر إلى مصدر دعم لمن هم بأمسّ الحاجة إليه؟ وهل يمكن أن تصبح المائدة الرمضانية ساحة لوعي اجتماعي جديد، يوازن بين الكرم الواجب والترشيد المطلوب؟ هنا، تبدأ الإجابة بالبحث عن آليات لاستثمار الكميات المتبقية من الطعام بطرق أكثر استدامة، بدلاً من أن يكون مصيره مكبات النفايات.

الهدر الغذائي وسط المعاناة: "جريمة"

لا شك انه مع حلول شهر رمضان المبارك، تجد شريحة واسعة من الأسر اللبنانية نفسها عاجزة عن تأمين سلة غذائية رمضانية تفي باحتياجاتها الأساسية، في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية التي أرهقت المجتمع. وبينما ترتفع الأسعار ويزداد الضغط المالي على العائلات، يظهر مشهد متناقض يتمثل في الهدر الغذائي الذي يرافق موائد الإفطار، حيث تُرمى كميات كبيرة من الطعام في وقت يكافح فيه البعض لتأمين أبسط المكونات الرمضانية.

وبالرغم من أن معدل التضخم السنوي في لبنان سجل انخفاضاً مقارنة بالعام الماضي، إلا أن الأسعار لا تزال مرتفعة، ما يجعل تأمين الوجبات الرمضانية تحدياً حقيقياً للكثيرين. فقد أصبح إعداد مائدة الإفطار التقليدية، التي تضم التمر، الشوربة، الفتوش، والأطباق الرئيسية، عبئاً ثقيلاً على الأسر التي تجد نفسها مضطرة لتقليل كميات الطعام أو الاستغناء عن بعض المكونات الأساسية.

وفي حين أن بعض الجمعيات الأهلية والأنشطة الفردية تسهم في تخفيف العبء عبر توزيع المساعدات الغذائية او "الفطرة"، إلا أن الإقبال على الشراء لا يزال ضعيفاً، وفقاً لما أكده صاحب مؤسسة للمواد الغذائية لـ "الديار". ومع ذلك، يبقى الطلب مرتفعاً على بعض المنتجات الأساسية مثل الأرز، السكر، التمر، علما ان سعر قنينة الجلاب حجم وسط بلغ هذا العام حوالي 6.5 دولارات بينما كان بـ 300 ألف ليرة رمضان الماضي.

الهدر الغذائي في رمضان بين الوفرة والحرمان: مقاربة شاملة

في سياق متصل، توضخ اختصاصية التغذية كاتيا قانصو لـ "الديار" أن "مشكلة الاسراف خلال شهر رمضان تعود إلى سوء التخطيط الغذائي، حيث يتم تحضير كميات تفوق الحاجة الفعلية، ما يؤدي إلى فائض كبير لا يُستهلك. وتؤكد أن الإفراط في إعداد تشكيلة متعددة الانواع لا يقتصر على المنازل، بل يمتد إلى المطاعم والفنادق التي تقدم وجبات الإفطار الجماعية، ما يفاقم المشكلة. من الناحية الصحية، تشير إلى أن المبالغة في تناول الطعام، خاصة بعد ساعات الصيام الطويلة، قد تخلق مشكلات صحية مثل اضطرابات الجهاز الهضمي وزيادة الوزن، وهو ما يتناقض مع الفوائد الصحية المرجوة من الصيام. وتنصح بضرورة التوعية حول الكميات المناسبة للطهي، وحفظ الطعام الفائض بطرق سليمة لضمان إمكانية إعادة استخدامه أو توزيعه على المحتاجين".

الكرم رمضاني: عادة غير محبّذة! 
من جهته، يقول أستاذ جامعي متخصص في الاقتصاد الاجتماعي لـ "الديار" ان "اضاعة الطعام في رمضان يشكل مفارقة قاسية، خاصة في المجتمعات التي تعاني من أزمات اقتصادية حادة، كما هو الحال في لبنان، حيث تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 70% من السكان يعيشون تحت خط الفقر. في ظل هذا الواقع، يصبح التخلص من الطعام الزائد في القمامة بدلاً من إعادة توزيعه ظاهرة غير مقبولة أخلاقياً واقتصادياً. ويشدد على أهمية استثمار الفائض الذي يمكن أن يسهم في تعزيز الأمن الغذائي، عبر إطلاق مبادرات لجمع الطعام المتبقي من المنازل والمطاعم وتوزيعه على العائلات المحتاجة. كما يلفت إلى ضرورة تفعيل التشريعات التي تشجع التبرع بالطعام بدلاً من التخلص منه، خاصة من قبل المؤسسات الكبرى".

ويرى أن "مسألة الهدر الغذائي في رمضان ترتبط بشكل وثيق بالعادات والتقاليد الاجتماعية التي تدعم ثقافة الكرم بشكل مبالغ فيه، حيث يُنظر إلى وفرة الطعام على الطاولة كرمز للضيافة والمكانة الاجتماعية، بينما يُخشى أن يُفسَّر تقديم كمية محدودة منه على أنه بخل أو تقصير في حق الضيف. تؤدي هذه العادات إلى زيادة غير مبررة في استهلاك الغذاء، مما يساهم في تفاقم الهدر. ويتحدث عن الدور الذي تلعبه الإعلانات والعروض التجارية في تحفيز الأفراد على شراء كميات تفوق حاجتهم، مما يكرّس التوجه الاستهلاكي المفرط. من هذا المنطلق، ينبغي إطلاق حملات توعية تعيد تشكيل المفاهيم المرتبطة بالضيافة والكرم، بحيث يصبح الاقتصاد في الطعام سلوكاً محموداً بدلاً من النظر إليه على أنه تقليل من الكرم".

"التفريط" يناقض التعاليم الدينية

أما من الناحية الدينية، فيؤكد مصدر من دار الفتوى لـ "الديار" أن "الإسراف في الطعام يتناقض مع تعاليم الإسلام، التي تدعو إلى التوازن في الإنفاق وتقدير النعمة. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" (الأعراف: 31)، وهو توجيه صريح لعدم التبذير في الطعام والشراب. من هنا، يتعارض التبذير في رمضان مع جوهر الصيام، الذي يهدف إلى الشعور بمعاناة الفقراء والحدّ من التعلق المفرط بالماديات. كما ان إلقاء الطعام في القمامة، في وقت يوجد فيه من يتضور جوعاً، يعد من قبيل التبذير المحرم شرعاً. ويدعو الى تبني ثقافة الترشيد وإحياء قيم التكافل الاجتماعي عبر توزيع الطعام الفائض على المحتاجين بدلاً من التخلص منه".

ويضيف "هناك العديد من الحلول العملية التي يمكن تبنيها للتخفيف من هذه القضية، مثل تنفيذ مقترحات لجمع فائض الطعام وتوزيعه على الجمعيات الخيرية، أو تشجيع المطاعم والفنادق على تقديم الوجبات غير المستهلكة للجمعيات المتخصصة. بالإضافة الى ذلك، يجب نشر ثقافة حفظ الطعام عبر التوعية بطرق تخزينه بشكل صحيح، والاستفادة من بقاياه في إعداد وجبات جديدة بدلاً من رميها. ويشدد على أهمية دور البلديات والهيئات المحلية في تنظيم حملات لجمع الطعام الفائض وإيصاله إلى الفقراء، بدلاً من أن ينتهي في مكبات النفايات".

كيف يمكن تقليص "بعزقة" الطعام في رمضان؟ تجيب اختصاصية التغذية كاتيا قانصو، "يعد الاعتماد على المبادرات الفردية والمجتمعية التي تهدف إلى جمع الفائض وإيصاله إلى المحتاجين أمراً فعّالا جدا، خاصة مع ازدياد أعداد العائلات التي تعاني من الفقر والعوز. على المستوى الفردي، يمكن الوقاية من الإسراف عبر التخطيط المسبق لكميات الطعام، بحيث يتم تحضير ما يكفي فقط دون زيادة غير مبررة، مع استغلال الكميات المتبقية في إعداد وجبات جديدة بدلاً من اتلافها. وإذا كان من الصعب الوصول إلى المحتاجين مباشرة، يمكن توجيه الطعام الفائض إلى دور الأيتام والمسنين، حيث يوجد نزلاء بحاجة دائمة إلى وجبات مغذية، أو التنسيق مع الجمعيات الخيرية التي تتولى جمع فائض الطعام من المنازل والمطاعم وإعادة توزيعه على العائلات الأكثر احتياجاً".

وتقول: "في ظل تزايد الشظف، أصبح من السهل التعرف على من هم بحاجة إلى المساعدة، إذ بات الفقر يظهر بشكل جلي ضعف العائلات وحاجتها الملحّة للطعام. وهذا يستدعي ترسيخ ثقافة التكافل، سواء من خلال التبرعات الفردية المباشرة أو عبر حملات مجتمعية تتولى جمع الطعام الزائد، فرزه، تعبئته، وتوزيعه بطريقة تحفظ جودته. روح رمضان لا تتحقق بالإسراف، بل بتوجيه البواقي لمن هم في أمسّ الحاجة إليها، لأن القاء طعام صالح في القمامة بينما هناك من ينام جائعاً، ليس إلا انعكاساً لاختلال القيم التي يدعو إليها هذا الشهر الكريم".

في النهاية، يتفق جميع الخبراء، بمختلف تخصصاتهم، على أن الحدّ من هدر الطعام في رمضان ليس مسؤولية فردية فحسب، بل هو التزام جماعي يتطلب وعياً مجتمعياً، وإرادة سياسية، وتعاوناً بين الأفراد والمؤسسات، حتى يصبح رمضان بالفعل شهراً للزهد والتكافل، لا مناسبة للإسراف والتبذير.

ندى عبد الرزاق - "الديار"

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا