الصحافة

الدولة تفكك "دويلة" التهريب في حوش السيد علي

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

لم يكن التدهور الأمنيّ الذي شهدته الحدود اللبنانية الشرقية لجهة منطقة حوش السيد علي في الأسبوع الماضي تفصيلاً، ولا هي أيضاً إجراءات السلطات اللبنانية السريعة التي تلته. بل جاءت هذه الأحداث المتسارعة في سياق تاريخيّ، يصعب معه قبول ادّعاءات الجانب السوري بأنه تاه عن الخرائط المرسّمة لحدود بلاده عندما سيطر على الجزء اللبناني من البلدة لساعات معدودة. كما أنه يجعل من السذاجة التسليم بأنّ تدخّل الجيش لاسترداد البلدة "المحتلة" فوراً، ليس سوى تدبيرٍ أمنيّ لتدارك مزيد من إشكالات المهرّبين. فهل تؤسّس قافلة ملالات الشرعية العسكرية التي شقّت طريقها إلى الحدود الشرقية، خطوة أولى باتجاه نزع السلاح من شمال الليطاني؟

الحوش اليوم تحت المجهر، فلنراقب وننتظر.

لطالما كانت مساحة الحدود الشاسعة الفاصلة بين لبنان وسوريا في منطقة الهرمل تحديداً، مغرية لتجّار الحدود. وهذا ما جعلها في نشاط دائم، تناغم من خلاله مهرّبو البلدين لفترة طويلة، ونوّعوا بضائعهم المهرّبة طبقاً لتبدّل حاجات الجارين. غير أنّ ذروة هذا النشاط التجاري، غير الشرعي، برزت في ثمانينات القرن الماضي. وحينها اكتسب حوش السيد علي شهرته، كـ port أو مرفأ جاف، أمّن انتقالاً سهلاً للبضائع على طرفي الحدود. فكان المهرّبون يبيعون سوريا مواد غذائية وإلكترونيات وأدوات كهربائية، في مقابل استقدامهم المازوت والغاز. وبدا إبداعهم خارقاً في الالتفاف على كل محاولات الردع الأمنية، حتى عندما ثبّت الجيش حواجزه التابعة لفوج الحدود على فم الحوش ومشارفها. فلم يُغلَق منفذ غير شرعي في البلدة، وخصوصاً من تلك المنافذ التي تتمتّع بأهميّة استراتيجية.

دور استراتيجي موازٍ للدور التجاري

منذ الأسبوع الأول من شهر نيسان 2013، صارت حركة التنقل "غير الشرعي" بين البلدين عبر ممرّات الحوش والقصر أكثر استراتيجية. فقد تورّط "حزب اللّه" إلى جانب نظام الأسد في المعركة التي شنّها ضد القوات المعارضة له في محافظة حمص، وكان دوره جلياً في مساندته بعمليات قطع طريق الإمداد الرئيسي للجيش السوري الحرّ والمتمرّدين على النظام، الذين تعرّضوا، مدنيين ومقاتلين، لعملية تهجير واسعة من منطقة القصير ومختلف قراها.

فائض القوة الذي تمتّع به "حزب اللّه" على حدود المنطقة خلال هذه المرحلة فرض أمراً واقعاً، عزّز دور معابره غير الشرعية، كخطوط إمداد لوجستي للمعارك التي خيضت من ضمن المحور الإيراني في مساندة نظام بشار الأسد.

في معرض "حرب الإسناد" التي خاضها "حزب اللّه" إلى جانب نظام الأسد، كانت زيارة استطلاع ميدانية صحافية خاصة للمنطقة. فظهرت حينها حوش السيد علي كما منطقة القصر الملاصقة، كـ NO MAN’S LAND. لم يكن ذلك بسبب غياب كل مظاهر الدولة عنهما، وحتى تلك الخجولة التي كانت سابقاً توحي بسيطرة شرعية ما على المعابر غير الشرعية، إنما بسبب الحركة المريبة التي أحاطت بسكانها غير المرحّبين بأيّ غريب في بلدتهم. فتحوّل هؤلاء جميعاً مخبرين لـ "حزب اللّه"، الذي أضيفت إلى مهام عناصره مرافقة زائر المنطقة وإبقاؤه تحت المراقبة حتى اصطحابه إلى خارجها. السيّارات التي كانت تجوب طرقات الحوش مع لوحات محجوبة وزجاج داكن حينها، جزمت بتحوّل المحيط إلى منطقة عمليات مخابراتية حزبية، وسط بيئة حامية، وفّرت الانتقال السهل للمقاتلين مع أسلحتهم. فبدا واضحاً أن دور البلدة الجيوسياسي- الأمني أصبح أكبر بكثير من دورها في التجارة غير الشرعية، وأبعد من مساحتها الممتدّة على عشرين كيلومتراً من الأراضي اللبنانية. وهذا ما أثبتته أيضاً الأحداث اللاحقة.

بيئة حاضنة للسلاح والمخدّرات

مع توسّع نفوذ "حزب اللّه" في الطرف السوري من الحدود، منع على أهالي منطقة القصير السورية تفقّد ممتلكاتهم التي سيطر "حزب اللّه" على جزء كبير منها، فدفع بهؤلاء باتجاه بلدة عرسال ومنطقة مشاريع القاع اللبنانيتين.

لأعوام، اقتنع النازحون السوريون من محافظة حمص، أنّ عودتهم إلى قراهم صارت مستحيلة، ولم يكن أحد يقدر على تبديل المعادلات بهذه السهولة بعد أكثر من عشر سنوات على هجرتهم القسرية.

السيطرة الأمنية ترافقت أيضاً مع سيطرة على الحركة التجارية للحدود، التي لزّمت للبيئة الحاضنة، وبدت في تماهٍ تامّ مع جيش نظام الأسد. وانسحب هذا التعاون في عمليات نوعية غير شرعية، احتضنت من خلالها البيئة أيضاً معامل تصنيع المخدّرات النازحة من الداخل السوري، وأحاطتها بسلاح سمّي "سلاح العشائر" التي حمت "الموبقات" مقابل غضّ النظر عن كل نشاط موازٍ أمّن الأرباح لمهرّبين احتموا أيضاً بعباءة العشائر.

إلّا أن الأخطر كان في الدور الذي لعبته منطقة الحوش ومعابرها غير الشرعية في هدر ودائع اللبنانيين في المصارف من خلال استنزاف دعم مصرف لبنان لبعض المنتجات المهرّبة، وبكميات كبيرة إلى سوريا، وسط ترحيب من "حزب اللّه" بفكّ عزلة سوريا الاقتصادية المفروضة بموجب "قانون قيصر".

وقاحة الدويلة المذيّلة بعبارات "خوش آمديد"

الكلّ يذكر صهاريج البنزين والمازوت في اجتيازها مسافات طويلة من بيروت إلى أقاصي الحدود اللبنانية باتجاه منطقة الهرمل، لتباع بأسعار ملأت جيوب المهرّبين بأرباح غير شرعية خلال تلك المرحلة. بدا الأمر حينها مستفزاً لكلّ اللبنانيين، الذين كانوا يراقبون أيضاً هدر ودائعهم في دعم منتجات تشاركوها مع النازحين السوريين على الأراضي اللبنانية.

حاول "حزب اللّه" لاحقاً تبييض صفحته مع المجتمع اللبناني. فروّج لصهاريج المازوت التي استحضرها من إيران عبر معبره غير الشرعي، كخدمة للمجتمع اللبناني.

مذيّلة بعبارة "خوش آمَديد" الفارسية، والتي تعني "أهلاً وسهلاً"، كشفت قوافل المازوت الإيراني التي استقدمها "حزب اللّه" تحت شعار "صهاريج فكّ الحصار"، الوقاحة التي بلغتها الدويلة من خلال شقّ أوتوسترادات رديفة للمعابر الحدودية الشرعية. ففضح "الحزب" أبرز ثغرة حدودية مستغلّة استراتيجياً وأمنياً من قبله، وفي منطقة حوش السيد علي تحديداً. ومن بوّابتها حرّر أموالاً "فريش" تقاضاها من السوق اللبنانية من جرّاء بيعه المازوت الإيراني بأقلّ من سعره، وربّما تكون قد موّلت أنشطته الحزبية، سواء الأمنية والعسكرية أو حتى الاجتماعية.

بدا هذا المعبر عصياً إذاً حتى على أبراج مراقبة الحدود البرية المجهّزة بتمويل بريطاني، ولم تتمكّن أفواج الحدود اللبنانية من إخضاعه لسلطتها، خلافاً لما أظهرته من حزم على طرف الحدود الفاصلة بين منطقة عرسال وجاراتها إثر معركة "فجر الجرود". وهذا ما أبقى معابر الحوش في دائرة شبهات أمنية وسياسية، إلى جانب التهم الموجهة إليها بتعميق الأزمة الاقتصادية وخلق منافذ لتجارات غير شرعية ومسيئة للأنظمة المرعيّة، سواء للمازوت والغذاء وحتى للدواء، وكل ذلك في سعي حثيث من "الحزب" لتأمين نوع من الاستقلالية "الصحية" و "الغذائية" لبيئته.

ضريبة الثلاثية

في جولة ميدانية على المعابر البرية غير الشرعية منتصف العام 2023، كان واضحاً توقف الإجراءات العسكرية على باب معبر "الحزب" في الحوش. فلم تخف مصادر عسكرية مواكبة أن ضبط هذا المعبر تحديداً مقرون بقرار سياسي يسقط ثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة" التي شرّع بذريعتها شقّ طرقات موازية لأكثر من معبر شرعي. إلى أن جاءت ضريبة هذه الثلاثية في عقر دار الخزان البشري واللوجستي لـ "الحزب" في منطقة بعلبك الهرمل، فوقع الحوش أيضاً في مرمى الأهداف الأساسية للطيران الإسرائيلي، مع توسّع عدوانه على لبنان إثر تورّط "حزب اللّه" في حرب "المشاغلة".

في 11 حزيران 2024 كانت أولى الغارات الإسرائيلية التي استهدفت بتسعة صواريخ ناقلات نفط، ومبنى دمّر بالكامل في منطقة الحوش وفقاً لما نقلته وكالة "فرانس برس"، لتكرّ السبحة من بعدها باستهدافات متكرّرة تنوّعت بين غارات على خزانات وقود وصهاريج نفط، وشاحنات، ومراكز حزبية ومستودعات أسلحة، وسيارات وحتى دراجات نارية، وفقاً لما تناولته صفحات الناشطين، بالإضافة إلى ما نشره الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، من دون أن تتمكن الصحافة من بلوغ هذه الأهداف للتأكد من حقيقة ما هو مستهدف.

استمرّت الحوش في مرمى نيران الطيران الإسرائيلي حتى اليوم الأخير الذي سبق إعلان وقف العدوان، لا بل تكرّرت الاعتداءات بعده، وكان آخرها في شهر شباط من العام الجاري.

تقهقر معبر "الحزب" المرافق لتقهقر نظام الأسد

كان واضحاً أن العدوان الإسرائيلي المتكرر على المنطقة لم يوقف نهائياً حركة التهريب، التجاري والاستراتيجي، عبر هذه المنطقة. إلى أن سقط نظام بشار الأسد في سوريا. فاستشعر أهالي المنطقة كما "حزب اللّه" أنهم فقدوا امتيازاتهم على هذه الحدود. وصار فائض القوة الذي تمتّعوا به، على الجانب السوري من الحدود، معززاً بخلفيات انتقامية تغذّت من كل الأحداث التي سبقت سقوط الأسد ونظامه.

عشية الثامن من كانون الأول من العام 2024 تحدّثت معلومات صحافية عن تعزيزات قتالية حاول "حزب اللّه" أن يمدّ بها نظام الأسد للحفاظ على صموده، انطلقت من منطقة حوش السيد علي باتجاه محافظة حمص، لكنّ العناصر ما لبثوا أن عادوا أدراجهم مع تقهقر المحور الإيراني بسرعة قياسية فاقت سرعة هروب بشار الأسد من قصره.

لم تهدأ حركة معابر الحوش بعد تاريخ سقوط الأسد أيضاً. لكنّ المفارقة كانت في تبدّل الهوية المذهبية للهاربين. شهدت المدن والقرى السورية المتاخمة للحدود اللبنانية في هذه المرحلة هجرة جماعية لسكانها "الشيعة"، من لبنانيين وسوريين، ولا يزال جزء كبير من هؤلاء يملأ حسينيات منطقة الهرمل، وقسم كبير يتخوّف من أن يكون قد فقد ممتلكاته على الناحية الأخرى من الحدود نهائياً.

تبدّل موازين القوى على الحدود

كانت تلك علامات تبدّل موازين القوى في هذه المنطقة، التي دفعت بـ "حزب اللّه" إلى التنصّل من كل احتكاك يقع على الحدود، وآخرها نفي ضلوعه في المواجهات التي تطوّرت إلى احتلال جيش الإدارة السورية الموقتة الجزء اللبناني من أراضي الحوش، قبل انسحابه منه بعد اتصالات مباشرة جرت بين السلطات الشرعية في البلدين.

حاول الطرف السوري أن يبرر فائض القوة الذي استخدمه في حرق منازل المدنيين وإلحاق الأذى بممتلكات أهالي الحوش وقاطنيها اللبنانيين خلال فترة احتلاله القصيرة للبلدة، من خلال نشر صور لمراكز مراقبة أمنية، ادّعى الناشطون إلى جانب الإدارة السورية أنها تابعة لـ "حزب اللّه"، متحدثين أيضاً عن اقتحام مستودعات للأسلحة، والكبتاغون.

وعلى الرغم من تظهير الطابع الأمني "العصاباتي" للحوش، لم تمانع الإدارة السورية الموقتة لاحقاً الرضوخ للشواهد الجغرافية التي قدّمها الطرف اللبناني، والتي أظهرت لبنانية الأراضي التي دخل إليها. فانسحبت قواتها خلال ساعات، ليبسط الجيش سطوته على المنطقة للمرة الأولى، وتصبح مع جاراتها تحت إمرة السيادة الوطنية، بصرف النظر عن هتافات التخوين التي حاولت أن ترتفع على صوت ملالاته.

إنجاز يسجل لبداية العهد فهل يستكمل؟

انطلاقاً من هذا التسلسل التاريخي لسيرة حوش السيد علي الحديثة، يصبح دخول الجيش إلى المنطقة إنجازاً يسجل لعهد الرئيس جوزاف عون، وقائد الجيش الجديد العماد رودولف هيكل في أولى مهماته المنفذة بعد توليه منصبه. إلّا أن العبرة لا شك تبقى في مدى صمود الهدنة على هذه الحدود ومنع تكرر الاشتباكات في المرحلة المقبلة، مثلما هي في فرض سيادة الشرعية التامة على مختلف المعابر غير الشرعية، والتي ارتفعت الشكوى أخيراً من الخروقات التي تتسبّب فيها، سواء في منطقة مشاريع القاع بقاعاً، والتي تشكل امتداداً للمنطقة الحدودية الفاصلة بين البلدين، أو في شمال لبنان.

فعلى الرغم من إغلاق بعض المنافذ غير الشرعية عبر منطقة مشاريع القاع باتجاه الأراضي السورية، ما زالت معابر التهريب مشرّعة في هذا الطرف من الحدود، بتسهيل من الإدارة السورية الموقتة وقواتها العسكرية. وهذا ما يضع الدولة وأجهزتها الأمنية الشرعية، تحت ضغط مضاعف لفرض هيبتها على كل الأراضي اللبنانية، منعاً لسيادة منقوصة تبقي الباب مشرعاً للفتنة المتسلّلة عبر الحدود. وعلى الرغم من بعض أصوات النشاز، يتطلع أبناء البلدات المجاورة للحدود، إلى استعادة السلطات الشرعية اللبنانية زمام المبادرة، ليس فقط في فرض سيطرتها على الحدود، وإنما أيضاً في تطبيق أنظمتها في ترحيل كل السوريين المقيمين على الأراضي اللبنانية بطريقة غير شرعية، وخصوصاً بعدما انتصر هؤلاء لقضيّتهم في إسقاط نظام الأسد. وهذا يتطلّب بحسب أبناء المنطقة قراراً سياسياً يتجاوز مجرّد التدابير الأمنية، ليمنع تكرّر مثل هذا الانفلات الأمني الذي يكاد في كل مرة يورّط لبنان في حرب جديدة، ويفرض هيبة الدولة سواء في حوش السيد علي أو في غيرها من القرى الملاصقة للحدود.

لوسي بارسخيان-نداء الوطن

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا