بعد استهداف الضاحية.. إسرائيل تعيد رسم "معادلة ردع" جديدة مع حزب الله
في خطوة تصعيدية جديدة، استهدفت إسرائيل يوم الجمعة 28 مارس/آذار مواقع تابعة لمليشيا حزب الله في ضاحية بيروت الجنوبية، وهو الهجوم الأول منذ التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
ورغم أن الغارة جاءت ردًا على إطلاق الحزب صواريخ نحو شمال إسرائيل، إلا أن أبعادها تتجاوز مجرد معادلة "الردع المتبادل"، إذ تسعى تل أبيب إلى فرض قواعد اشتباك جديدة مستفيدة من التغيرات السياسية والعسكرية، لا سيما بعد سقوط النظام السوري.
في الظاهر، جاءت هذه الضربة ردًا على خرق حزب الله للهدنة وتجاهل التحذيرات الإسرائيلية. ففي يوم السبت 22 مارس/آذار، أطلق حزب الله 3 صواريخ من الجنوب اللبناني نحو الشمال الإسرائيلي؛ ما استدعى ردًا إسرائيليًا عبر قصف واسع للجنوب اللبناني، مع تحذير من أن أي إطلاق للنار من "حزب الله" على أي موقع إسرائيلي سيقابل بضربات على بيروت نفسها.
في المقابل، يجد حزب الله نفسه أمام تحدٍّ استراتيجي، إذ تتزايد الضغوط الإسرائيلية والدولية لنزع سلاحه، وسط خيارات محدودة بين التصعيد العسكري أو احتواء الموقف بانتظار تغييرات إقليمية قد تعيد التوازن.
وحاول حزب الله إطلاق صاروخين إضافيين، اعترض الأول وسقط الثاني داخل الأراضي اللبنانية، لترد إسرائيل بعدة ضربات قوية في الجنوب اللبناني، بما في ذلك استهداف الضاحية الجنوبية.
ومع استمرار إسرائيل في عملياتها داخل لبنان، يبدو أن المرحلة المقبلة ستشهد إعادة رسم معادلات القوة في المنطقة، في ظل تداخل المصالح الدولية والإقليمية في هذا الصراع المتجدد.
لكن إذا تمعنّا في التفاصيل، نلاحظ أن إسرائيل تسعى إلى أكثر من مجرد تأكيد معادلة الردع التي مفادها أن أي استهداف لأراضيها سيقابل بضربات على بيروت. يبدو أن الهدف الإسرائيلي يتجاوز ذلك بكثير، حيث تسعى تل أبيب إلى تغيير المشهد السياسي والعسكري بشكل جذري على جبهتها الشمالية.
ولتحقيق ذلك، تستفيد إسرائيل من الدعم الأميركي غير المحدود، بالإضافة إلى حقيقة أن "حزب الله" لا يزال مكبلًا بانتظار قرار استراتيجي من إيران قد يتأخر كثيرًا.
الحسابات الإسرائيلية
وقبل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2024، كان هناك جدل كبير داخل إسرائيل حول مسار الحرب وأهدافها.
في ذلك الوقت، كانت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية متحمسة لمواصلة الحرب ضد "حزب الله" ومنع إعادة تسلحه، لدرجة أن كبار القادة العسكريين استمروا في تصرفاتهم وكأن الحرب مستمرة حتى الساعات الأخيرة التي سبقت دخول الاتفاق حيز التنفيذ، بما في ذلك متابعة التقدم البري نحو نهر الليطاني.
في المقابل، كان المستوى السياسي الإسرائيلي منقسمًا حول استمرار الحرب، خاصة أنها كانت تتطلب اتخاذ قرارات سياسية جذرية، مثل التعامل مع قطاع غزة، وصفقات إطلاق سراح الأسرى، وتنظيم تجنيد الاحتياط، بالإضافة إلى استدعاء طلاب المدارس الدينية للخدمة العسكرية، وهو أمر لم يحدث في تاريخ إسرائيل من قبل.
في النهاية، ضغط المستوى السياسي لإنهاء الحرب، والاكتفاء بما تحقق على الصعيدين السياسي والعسكري، مثل إلحاق صورة الهزيمة بـ"حزب الله" وإزالة القسم الأكبر من قدراته الصاروخية، خاصة تلك بعيدة المدى.
إلا أن سقوط النظام السوري في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 غير الحسابات الإسرائيلية بشكل جذري. فقد فقدَ "حزب الله" شريان إمداده عبر الأراضي السورية، وعاد نفوذه السياسي في لبنان إلى الوراء عقدين من الزمن. لم يعد في موقع يسمح له بفرض شرعية حمل السلاح في لبنان كجزء من معادلة الأمن الوطني اللبناني.
وعلى ضوء هذه التغيرات، ترى إسرائيل أن الفرصة قد تكون سانحة لتغيير المشهد العسكري والسياسي بشكل كامل على الجبهة الشمالية. وحتى المستوى السياسي الإسرائيلي الذي كان أكثر تحفظًا بشأن أهداف الحرب في خريف 2024، بدأ الآن يتحدث عن ضرورة إقامة منطقة عازلة دائمة في جنوب لبنان.
في 18 فبراير/شباط 2025، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف كاتس، أن القوات الإسرائيلية انسحبت من معظم المواقع اللبنانية، باستثناء خمسة مواقع استراتيجية سيتم تحويلها إلى منطقة عازلة، حيث ستظل القوات الإسرائيلية متواجدة فيها بشكل دائم لحماية المدن الإسرائيلية وتحقيق الردع.
الضغط على الحكومة اللبنانية
في الوقت نفسه، زادت إسرائيل من ضغوطها على الحكومة اللبنانية لتطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي، لا سيما القرار رقم 1559 الذي ينص على نزع سلاح كافة التنظيمات غير الحكومية، بما في ذلك "حزب الله".
وفي الأسابيع الأخيرة، تحركت القوات المسلحة اللبنانية وضبطت مستودعات أسلحة تابعة لـ"حزب الله"، من بينها شبكات أنفاق محصنة تحت الأرض لتخزين الصواريخ الباليستية.
ويعزى انتقال إسرائيل لمحاولة نزع سلاح "حزب الله" إلى عاملين أساسيين. الأول عسكري، ويتعلق بمواصلة تقليم قدرات إيران العسكرية في المنطقة.
يذكر أن ما يحدث في لبنان يشبه إلى حد كبير ما يحدث في اليمن، مع فارق أن الولايات المتحدة تتولى منذ منتصف مارس/آذار عملية نزع سلاح الحوثيين، بينما إسرائيل تتولى نفس المهمة في لبنان، مستفيدة من الضغط السياسي الأميركي على لبنان.
أما العامل الثاني فهو سياسي، ويرتبط بهشاشة صورة "حزب الله" كقوة معادية لإسرائيل، وما يمثله من عقبة أمام تطبيع العلاقات العربية – واللبنانية خصوصًا – مع إسرائيل.
والضربة الإسرائيلية الأخيرة في 28 مارس/آذار لم تقتصر على كونها الأولى التي استهدفت الضاحية الجنوبية منذ اتفاق وقف إطلاق النار، بل أسفرت عن إجبار "حزب الله" على إلغاء فعالية "يوم القدس" التي كان من المقرر أن يقيمها في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان.
وكان من المنتظر أن يلقي أمين عام "حزب الله"، الشيخ حسن نصر الله، خطابًا في هذه المناسبة، لكن إسرائيل نجحت في إلغاء الفعالية وإظهار "حزب الله" في موقف ضعف داخلي غير مسبوق.
خيارات "حزب الله"
تعتبر الضربة الأخيرة للضاحية الجنوبية جزءًا من سلسلة متصاعدة من التحركات الإسرائيلية التي تهدف إلى الضغط على "حزب الله"، حيث ترفض إسرائيل الانسحاب من مواقع استراتيجية في جنوب لبنان، وتستمر في عمليات اغتيال كوادر "حزب الله".
من المرجح أن تعقب هذه الضربة المزيد من الضغوط الإسرائيلية على "حزب الله". في هذا السياق، يرى المراقبون أن خيارات "حزب الله" تقتصر على رد مباشر ومعلن على إسرائيل؛ ما قد يعيد الطرفين إلى حالة حرب مفتوحة، أو تجنب الرد والتعايش مع الضغوط الإسرائيلية في انتظار مخرج ما.
ولكن يبقى من المحتمل أن يسلك "حزب الله" مسارًا ثالثًا، يجمع بين الرد والـ"لا رد"، عبر تنفيذ هجمات محدودة، خصوصًا صاروخية، دون تبني المسؤولية عنها، أو من خلال دفع جماعات مجهولة لتبني تلك الهجمات.
في الوقت ذاته، سيزيد "حزب الله" من ضغوطه على الحكومة اللبنانية لتحمل مسؤوليتها في وقف الضربات الإسرائيلية. ويدرك "حزب الله" أن الحكومة اللبنانية لا تملك القدرة على وقف هذه الضغوط، وأنه لا يمكنها الحصول على دعم دولي يسمح لها بإقناع إسرائيل بالانسحاب من المواقع الاستراتيجية في جنوب لبنان.
وبالتالي، يسعى "حزب الله" إلى إبقاء الحكومة اللبنانية في موقف ضعف؛ ما يمنعها من التوجه نحو خطوات تطبيعية مع إسرائيل.
التحديات المستقبلية لـ"حزب الله"
يدرك "حزب الله" أنه لا يمتلك القدرة على اتخاذ قرارات استراتيجية بمفرده في الميدان العسكري والسياسي، وأن قرار الرد الكامل يعود إلى إيران. في ظل التهديدات الوجودية التي تواجهها إيران، سواء على الصعيد العسكري أو النووي، يبقى "حزب الله" في حالة انتظار لما ستقرره طهران.
واليوم إيران وفي مواجهة ضغوط دولية كبيرة، قد تكون مضطرة إلى اتخاذ قرارات مصيرية بشأن سياستها النووية؛ ما قد يغير بشكل جذري توازن القوى في المنطقة.
وإلى أن تحسم إيران موقفها، سيظل "حزب الله" يواجه ضغوطًا إسرائيلية وأميركية متصاعدة، مع احتمال أن يطول هذا الانتظار حتى نهاية عام 2028. في أسوأ السيناريوهات، قد يتعرض "حزب الله" لضربات عسكرية أميركية، أو قد تتعرض إيران نفسها لضربات عسكرية أميركية تجعل وجود النظام الإيراني و"حزب الله" نفسه على المحك.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|