الصحافة

جنون الذّهب وسقوط الدّولار: الكلّ “يبيع أميركا”

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

تحوّل هبوط الدولار الأميركي أمام العملات الرئيسية إلى ما يشبه السقوط الحرّ، مع تجاوز خسائر العملة الخضراء عشرة في المئة خلال ثلاثة أشهر. غير أنّ الضوء الأحمر يأتي من الصعود المذهل لأسعار الذهب بما يقارب 30% منذ بداية العام، وهو ما يرجّح الافتراض بأنّ ما يجري ليس تقلّباً معتاداً من تقلّبات الأسواق، بل هو تحوّل تاريخي يرتبط بالسعي الأميركي إلى إرساء نظام عالمي جديد للمال والتجارة.

التفسير السائد لارتفاع أسعار الذهب حتّى عتبة الـ 3,500 دولار يربطه بزيادة الطلب على الملاذات الآمنة، في ظلّ الضبابية المحيطة بالحرب التجارية والتوتّرات الجيوسياسية. غير أنّ الأخطر هو ما يتعلّق بالهروب العالمي من كلّ ما هو أميركي، إذ تسود في أوساط المستثمرين هذه الأيّام مقولة “بِع أميركا” (Sell America)، في إشارة إلى التزامن غير المعتاد بين موجات بيع الأسهم الأميركية والسندات الأميركية والدولار الأميركي.

في العادة، حين تهبط أسواق الأسهم يلجأ المستثمرون إلى أسواق السندات، وحين يهبط كلاهما يلجأ المستثمرون إلى الدولار ملاذاً آمناً، لكنّ ما يجري هذه الأيّام هو بيعٌ متزامنٌ لكلّ ما هو أميركي، وهو ما يعني عمليّاً تحوّل الولايات المتحدة من أكبر مغناطيس للأموال والاستثمارات إلى بيئة طاردة للرساميل، وهذا بحدّ ذاته خطر على المشروع الاقتصادي للرئيس دونالد ترامب.

اعتماد متبادل

يتطلّب الأمر إعادة ترتيب الأحداث لفهم ما يجري، وربطه باستراتيجية البيت الأبيض.

يقوم نموذج العلاقة بين أميركا والصين على أنّ الصين تصنّع وتصدّر إلى الولايات المتّحدة ليشتري الأميركيون السلع بتكلفة منخفضة. وفي المقابل، تجني الصين العوائد وتعيد استثمار جزء كبير منها في أدوات الدين الأميركية، أي أنّها تُقرضها للولايات المتّحدة، لتموّل بذلك العجز في الميزانية الفدرالية الأميركية. وهكذا أصبح الاعتماد متبادلاً: تعتمد أميركا على الصين لإبقاء التضخّم منخفضاً ولتمويل عجز الميزانية، فيما تعتمد الصين على الولايات المتّحدة لشراء منتجاتها.

تقوم استراتيجية ترامب الاقتصادية والماليّة في الأساس على معالجة العجز التجاري القياسي مع دول العالم، وإعادة التصنيع إلى الولايات المتّحدة، وهذا يعني بالضرورة كسر علاقة الاعتماد المتبادل بين الصين والولايات المتّحدة.

من أجل ذلك، دخل ترامب في حرب تعريفات جمركية مع العالم أجمع. وسرت تكهّنات بأنّه يعمل بالفعل على تخفيض قيمة الدولار بشكل كبير لمعالجة العجز التجاري، من خلال تحسين تنافسية الصادرات الأميركية والحدّ من الاستيراد. بل تردّدت في الإعلام الأميركي أنباء عن خطط للضغط على الدول الحاملة للسندات الأميركية لاستبدالها بسندات أطول أجلاً.

هذا يعني عمليّاً أنّ الصين لن تتمكّن مستقبلاً من تحقيق فائض تجاري من التصدير إلى الولايات المتحدة، لكنّها في المقابل لن توفّر تدفّقات رأسماليّة لشراء السندات الأميركية التي تموّل عجز الميزانية الفدرالية، وهذا ما سيؤدّي عمليّاً إلى ضعف الطلب على السندات، وبالتالي ضعف الدولار.

ما أثار الريبة أنّ ترامب يتصرّف وكأنّه لا يعبأ بهبوط الدولار، فبدلاً من أن يفعل شيئاً لطمأنة الأسواق فإذا به يفتح صراعاً لا مثيل له في التاريخ الأميركي مع رئيس مجلس الاحتياط الفدرالي جيروم باول، فيضغط عليه علناً لتخفيض الفائدة، ويصفه بـ “الخاسر الكبير” و”السيّد متأخّر جدّاً”، ويلوّح بإقالته خلافاً للتقليد الراسخ باستقلالية رئيس الاحتياطي الفدرالي وعدم إمكان عزله.شعا استقبلت الأسواق هذه الحرب الكلامية بمزيد من التوتّر، فسجّل الدولار خسائر حادّة يوم الإثنين، وهوت الأسهم في “وول ستريت” وصعد الذهب إلى مستويات قياسية جديدة.

بدائل الدّولار

غير أنّ مخاطر ما يجري تبدو أكبر من أن تسمح بالاقتناع بأنّه مبرمج بالكامل من الإدارة الأميركية. فالهبوط الحادّ للدولار يعبّر هذه المرّة عن أزمة ثقة دوليّة، ولا شكّ أنّه يعبّر عن بحث عالميّ عن أوعية استثماريّة بديلة.

لكنّ السؤال الأهمّ: هل باتت مكانة الدولار مهدّدة بما هو عملة احتياط عالميّة، وعملة مهيمنة على حركة التجارة الدولية؟

لا شكّ أنّ أسباب الهروب من الدولار تفرض نفسها. وقد تعزّزت المخاوف منه في السنوات الماضية نتيجة تطوّرين رئيسيَّين:

  1. استخدامه سلاحاً اقتصاديّاً في العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس السابق جو بايدن على روسيا بعد اندلاع الحرب الأوكرانية.
  2. حرب التعريفات الجمركية التي بدأها ترامب.

يمكن ملاحظة توجّه الصين الواضح لتخفيف الانكشاف على الدولار من خلال بيعها لأكثر من 300 مليار دولار من سندات الخزينة الأميركية في السنوات الماضية، لينخفض حجم محفظتها من هذه السندات من نحو 1.1 تريليون دولار في 2019 إلى نحو 760 مليار دولار بنهاية العام الماضي. وفي المقابل، ثمّة توجّه واضح لدى الصين وعدد من الدول النامية لشراء الذهب بشكل مكثّف، إذ بلغت مشتريات البنك المركزي الصيني وحده نحو 300 طن في آخر ثلاث سنوات.

من الواضح إذاً أنّ البحث عن بدائل للدولار بدأ بالفعل، وما من شكّ أنّ سياسات ترامب سرّعت هذا الاتّجاه، لكنّ مكمن المشكلة للعالم كلّه هو غياب البدائل. فسوق السندات الأميركية لا شيء يضاهيها في العالم كلّه. وحين يُقال إنّ الصين تستخدم عوائد تجارتها مع الولايات المتّحدة لشراء السندات الأميركية، أي لإقراض الولايات المتحدة، فهذا ليس لرغبةٍ منها بذلك، بل لغياب البديل. فلا سوق السندات الأوروبية تستوعب الطلب العالمي، ولا السوق اليابانية، ولا الذهب ولا أيّة فئة أخرى من فئات الأصول.

عنصر القوّة والضّعف

حتّى العملة الصينية لا تنهض بديلاً عن الدولار، لأسباب كثيرة أهمّها أنّ الصين لا تسمح بحرّية حركة رؤوس الأموال، ولا هي راغبة أصلاً بكشف عملتها أمام المراكز التي يبنيها المستثمرون الأجانب.

ربّما لهذا السبب ما زال الدولار يستأثر بنحو 58% من احتياطيات البنوك المركزية، مقابل 20% لليورو، ونحو 12% للذهب.

بالنسبة للذهب تحديداً، قد يكون عنصر القوّة الأكبر هو نفسه عنصر الضعف. ففي حين أنّه يبدو بديلاً منطقياً، إلّا أنّه سوق محدود الإمدادات، ولا يمكن التوسّع فيه بلا سقف، كما هو حال الدولار.

فكلّ الذهب الموجود لدى البنوك المركزية لا يتجاوز 38 ألف طن، خُمسُه في الولايات المتّحدة، وكلّ ما هو متداول من سبائك وعملات ذهبية لا يتجاوز 48 ألف طن، يتنافس عليها الأفراد والمستثمرون وصناديق الاستثمار. وأقصى ما تنتجه المناجم سنويّاً لا يتخطّى 3,500 طن، أي نحو 1.6% من المخزون المتداول عالميّاً على شكل مجوهرات وسبائك وموادّ صناعية وغيرها.

ربّما يكون في ذهن راسمي السياسات في البيت الأبيض أنّ بإمكانهم خفض قيمة الدولار مع الحفاظ على مكانته المهيمنة عالميّاً، كما فعلت أميركا من قبل حين فكّت الارتباط بالذهب عام 1971، أو حين أجبرت القوى الخمس العظمى على تنسيق خفض الدولار في إطار اتّفاق بلازا عام 1985.

عبادة اللدن-اساس

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا