“يا ولاد الكلب”
ليس بسيطاً أن تمرّ بلا عاصفة ردود تذكر، الشتائم التي وجّهها الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى حركة حماس ومفاوضيها ومن يمسكون فيها بملفّ الرهائن الإسرائيليين. فاض به الكأس، من التلكّؤ والتأجيل والمماطلة، وما يستدعيه كلّ ذلك من ألم وموت ينزل بالفلسطينيّين. وجد في الشتيمة المباشرة “يا ولاد الكلب” ملاذاً لتصريف الغضب والاستياء، الذي يتجاوز شخصه، إلى حال عموم الفلسطينيين التوّاقين لوقف الكابوس الذي بدأ في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) 2023.
ليست سوابق الرئيس عباس في استخدام مفردات مماثلة في خطبه، ما يفسّر مرورها اليوم بحقّ حماس، ولا لأنّ موقع الرجل يزداد هامشيّةً في المشهد الوطني الفلسطيني، وهو ما يستدعي بنظر حماس ربّما، تهميش خطابه أيضاً.
فلو لم يخرج أهل غزّة في تظاهرات ضدّ حماس، مطالبين بمسار فوريّ وواضح لوقف الحرب، ولو لم يكن سقف طموحات الحركة اليوم أن تعيد عقارب الساعة إلى يوم 6 تشرين الأوّل 2023، بعد كلّ ما حلّ بغزّة وأهلها، لوجب عدم الغوص كثيراً في استقراء المعاني السياسية لقدرة مسؤول فلسطيني على قول ما قاله بحقّ “المقاومة”، من دون أن يثير ردود فعل كالتي يمكن توقّعها حيال خطاب مماثل.
ظاهرة خطيرة
بيد أنّ ما حصل، يقدّم واحداً من أكثر الأدلّة علنيةً على إفلاس “حماس” وخطابها، وينطوي على تحميلها ضمناً مسؤوليّة الكارثة التي حلّت بأهل القطاع. وليس من باب الصدفة أن يتزامن هذا الافتضاح العلنيّ لإفلاس حماس، مع كشف الأردن عن مؤامرة أمنيّة كان يخطّط لها الإخوان بالتعاون مع “حماس” ضدّ العرش. إذ بدل أن ينكبّ من فجّروا غزّة وجلسوا فوق رمادها، على المراجعة والنقد، وتصوّر آليّات أخرى لضمان أمن ومستقبل الشعب الفلسطيني، تراهم يهربون باتّجاه محاولة تفجير الأردن، وتصدير فشلهم نحو الوطن الثاني للفلسطينيين، من دون أيّ اعتبار سياسي أو استراتيجي أو حتّى أخلاقي، يخصّ أمان واستقرار الفلسطينيين قبل الأردنيين!
سلوك حماس وخطابها المتمحور حول مضاعفة التضحيات، وفتح الساحات، والإكثار من الدم بوصفه طريقاً للتحرير، كما ورد في رسائل يحيى السنوار، إنّما هو ظاهرة فكرية ونفسيّة خطيرة تنهض على السرديّات البسيطة والسطحية، معطوفةً على إغفال تامّ للدقّة في استقراء موازين القوّة، والمعطيات الواقعية لتاريخ وحاضر القضيّة الفلسطينية.
لم يكن السنوار بحاجة إلى تقديم أدلّة على أيّ خبرة يمتلكها بخصوص إدارة مصالح الفلسطينيين، ما دامت السرديّات المبسّطة الملهبة للمشاعر والقابلة للهضم الجماهيري، جاهزة لأسطرة “المقاومة الأصيلة”، بوصفها الطريق الأكيد والوحيد إلى المستقبل، بصرف النظر عن صحّتها التاريخية أو تداعياتها الأخلاقية. بل إنّ الخبرة والتعمّق في فهم الظواهر والمصالح وتعقيداتها، غالباً ما تُهمَل بوصفها عوائق انهزامية واستسلامية يجب أن لا يُسمح لها أن تفتّ من عضد المقاومين والقبضات والبنادق.
هكذا يستوي النضال المشدود إلى شعارات التحدّي والنضال والتمرّد، والمنزوع الصلة بالمسؤولية الأخلاقية للمناضلين، أداةً أكيدةً لتقويض القضايا التي يُزعَم الدفاع عنها، ويجعل من خطاب المقاومة ادّعاءات فارغة، يتمّ تداولها من قبل أناس يتمتّعون بأعلى معايير الجهل والثقة في آن.
إعادة تعريف القيم
مع ذلك، يظلّ تفكيك خطاب حماس، وبقيّة فصائل المقاومة، أكان تفكيكاً نظريّاً ومعمّقاً، أو تعريةً فظّةً له بتوظيف الشتيمة والاعتراض العامّ، قاصراً عن معالجة الأخطار المؤدّي إليها هذا الخطاب، مثل قدرته على إرباك الرأي العامّ وتعميق الجهل وتبديد المساحات الضروريّة لحوار حقيقي في مستقبل المسألة الفلسطينية.
بل إنّ الاستماتة لإضفاء شرعية ظاهرية على الخطاب الشعبويّ المليء بالمغالطات والتبسيط والاختزال، وتحويل استرخاص الإنسان الفلسطيني، تحت عنوانَي التضحية والنضال، إلى قيمة اجتماعية مقبولة، يُسهمان في تعزيز وحشيّة خطاب اليمين الديني الإسرائيلي، وتبرير سياساته العدوانيّة، ويوسّع دائرة التطبيع مع فهم سطحيّ ومشوّه للتاريخ والنضال الفلسطينيَّين.
ما تقوله التظاهرات التي قادها فلسطينيون شجعان ضدّ حماس في غزة، وتمرير الرأي العامّ الفلسطيني لشتائم الرئيس عباس للحركة، بل والدفاع عنها، يعطيان انطباعاً بأنّ سحر خطاب “حماس”، القائم على الإشباع العاطفي السريع، نضب في الوجدان الفلسطيني، وأنّ التفسيرات المقاوماتيّة السريعة والواضحة والحاسمة للقضايا المعقّدة التي يواجهها السؤال الفلسطيني فقدت صلاحيّتها. فلا يواجه الفلسطيني اليوم خطاباً مضلِّلاً فقط، بل يحارب عدميّة عميقة، قادته إليها حركة حماس بأعلى درجات التخلّي عن المسؤولية التاريخية والأخلاقية التي ينبغي أن يتحلّى بها من يتصدّرون تمثيل مصالح الناس.
والحال هذه، تتطلّب الصحّة الفكرية والسياسية والنفسية للمنطقة، قبل الصحّة السياسية والأمنيّة، تمييزاً شجاعاً بين الحقائق الصعبة، التاريخية والراهنة، وبين السرديّات المغرية والفارغة لخطاب المقاومة، على النحو الذي لا يفتح الباب فقط أمام تصويب السياسات، بل يعيد تعريف القيم نفسها التي بها تُربح القضايا أو تُهزم.
نديم قطيش-أساس
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|