اللائحة الرماديّة... امتحان صعب للبنان
اللائحة الرمادية هي عبارة عن لائحة تصدر عن مجموعة العمل المالي الدولية (FATF) المعنية بمكافحة الجرائم المالية. وتضمّ هذه اللائحة أسماء الدول التي تعهدت بمعالجة الثغرات الإستراتيجية في أنظمتها الخاصة، بمنع غسيل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب (AML/CFT)، ولكنها لم تُنهِ ذلك بعد. التداعيات السلبية على هذه الدول هي فورية، وتتمثّل بـزيادة الرقابة على المعاملات المالية، تقليل الوصول إلى الأسواق الدولية، إرتفاع تكاليف التحويلات والتجارة، وتراجع الاستثمارات الأجنبية.
لبنان على اللائحة الرمادية
في تشرين الثاني من العام 2024، تم إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي الدولية (FATF)، بسبب عيوب استراتيجية في الإطار القانوني والمؤسسي الخاص بمحاربة غسيل الأموال (ML)، وتمويل الإرهاب (TF)، وتمويل انتشار أسلحة الدمار الشامل (PF). وبحسب المعلومات الصحافية، أعطت مجموعة العمل المالي الدولية لبنان مهلة حتى العام 2026 لمعالجة هذه الثغرات.
تتمحور الأسباب الرئيسية لإدراج لبنان على اللائحة الرمادية حول النقاط التالية:
- أولاً ضعف الإطار القانوني: تشير مجموعة العمل المالي الدولية إلى أن التشريعات اللبنانية الخاصة بمكافحة غسيل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب، لا تتماشى بشكل كافٍ مع توصيات المجموعة، خاصة فيما يتعلق بتجريم تمويل الإرهاب. فعلى الرغم من وجود قوانين عامة، لم يقم لبنان بما يلزم لتجريم تمويل الإرهاب وذلك بشكل متعمد!
- ثانياً نقص المحاكمات وغياب عمليات تجميد أو مصادرة أصول المشتبه بهم: رغم وجود تشريعات (على الورق)، فإن السلطات اللبنانية لم تنفذ سوى عدد قليل جدا من المحاكمات المرتبطة بغسيل الأموال وتمويل الإرهاب. كما فشلت في تجميد أو مصادرة الأصول المرتبطة بالإرهاب أو الجريمة المنظمة بشكل فعال.
- ثالثاً رقابة ضعيفة على القطاع المالي: رغم تصنيف مجموعة العمل المالي الدولية للقطاع المصرفي اللبناني على أنه متقدم نسبيا، إلا أنه تم تسجيل ضعف في الإبلاغ عن المعاملات المشبوهة، بالإضافة إلى نقص الاستقلالية والفعالية لدى الهيئات الرقابية.
- رابعاً نقص في الرقابة على القطاع غير المالي: يشمل ذلك المهن الحرة، وهي مهن لا تخضع لرقابة كافية، مما يجعلها عرضة للإستخدام في عمليات غسيل الأموال.
- خامساً ضعف التعاون مع المجتمع الدولي: إذ تُظهر البيانات أن لبنان لم يتعاون بشكلٍ كامل فيما يخص المساعدة القانونية المشتركة، تسليم المطلوبين، وتبادل المعلومات مع الجهات الأجنبية. وهو ما أثار مخاوف حول الشفافية وإلتزام لبنان بمكافحة الجرائم المالية.
- سادساً العلاقات مع جماعات غير حكومية واتهامات بتمويل الإرهاب: تتهم مجموعة العمل المالي الدولية لبنان، بعدم إتخاذ الإجراءات اللازمة ضد بعض الجهات غير الحكومية، وعدم القيام بإجراءات لمنع وصولها إلى النظام المصرفي.
- سابعاً التدخلات السياسية وضعف المؤسسات: التدخلات السياسية في عمل المؤسسات، مثل القضاء والمصرف المركزي وهيئة التحقيق الخاصة، والتي أدّت إلى شلل في عملية مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
- ثامنا : أدّت الأزمة الاقتصادية إلى تراجع المصارف الدولية المتعاملة مع لبنان (De-Risking) ، مما قلل من العلاقات المصرفية الدولية، وأدى إلى زيادة الاعتماد على الأنظمة غير الرسمية غير القابلة للمراقبة ، وبالتالي زيادة مخاطر غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
مخاطر غسيل الأموال
يحتل لبنان مرتبة منخفضة جدا في مؤشر «إدراك الفساد»، الذي تُصدره منظمة الشفافية الدولية، وهو مؤشر يرتبط ارتباطا وثيقا بمخاطر غسيل الأموال. وتشير تقارير منظمات المجتمع المدني إلى أن هذا البيئة المواتية لغسيل الأموال ناتجة عن:
1 - ممارسات فساد في المناقصات العمومية، والجمارك، وسرية المعلومات خاصة في القطاع المصرفي، وهو ما ساعد في خلق بيئة خصبة لغسيل الأموال، الناتجة عن الرشوة والاختلاس والتهرب الضريبي ، وبالطبع كل النشاطات المنصوص عليها في المادة الأولى من القانون 44/2015.
2 - إستخدام قطاع العقارات لغسيل الأموال غير المشروعة الآتية من المنطقة، حيث يتم شراء العقارات باستخدام شركات وهمية أو نقد، وغالبا ما تمول من نشاطات غير مشروعة.
3 - التجارة (cash-based) التي تلعب دورا كبيرا في غسل الأموال غير الشرعية.
4 - منصات العملات الرقمية غير المنظمة وأنظمة «حوالة» غير الرسمية غير الخاضعة للرقابة، والتي شاع إستخدامها بعد إنهيار القطاع المصرفي.
كم تقدر قيمة غسل الأموال في لبنان؟
تقدير قيمة غسل الأموال في لبنان مُهمّة صعبة جدا ، بسبب طبيعة الأنشطة المالية غير المشروعة والسرّية، ونقص الشفافية، وإستمرار الأزمة الاقتصادية، وغياب القطاع المصرفي، إلا أن هذا الأمر لم يمنع البعض من القيام بـتقدير تقريبي لإجمالي حجم غسيل الأموال في لبنان. عمليا قدّر البنك الدولي حجم إقتصاد الكاش في لبنان بـ 10 مليار دولار أميركي، وهو رقم قد يتمّ إعتباره على أنه ناتج (بقسم منه عن الفساد أو تبييض الأموال). إلا أن التقديرات المبنية على أراء الخبراء والعقوبات الأميركية، تُشير إلى أن حجم تدفقات غسيل الأموال في لبنان يتراوح بين 1.5 مليار إلى أكثر من 4 مليار دولار أميركي، وهو موزّع على الشكل التالي:
- الفساد والإختلاس : من 200 مليون إلى 500 مليون دولار أميركي.
- غسيل الأموال عبر العقارات : من 500 مليون إلى أكثر من مليار دولار أميركي.
- التجارة : من 200 مليون إلى 500 مليون دولار أميركي.
- العملات الرقمية وأنظمة حوالة: من 500 مليون إلى أكثر من مليار دولار أميركي.
- التمويل المرتبط بقوى غير حكومية : من 100 مليون إلى أكثر من مليار دولار أميركي. بالطبع يتوجّب أخذ هذه الأرقام بحذر شديد، نظرا إلى أنها مبنية على تقديرات.
كم يُمكن للبنان الخروج من هذه اللائحة؟
بالطبع الإرادة السياسية هي الأساس في أي إجراءات لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب في لبنان. وهو ما يجب أن يُترجّم عمليا بإستقلالية حقيقية وفعّالة للجسم القضائي عن الطبقة السياسية. أيضا هناك هيئة التحقيق الخاصة المُنشأة بموجب القانون 44/2015 (حلّ محل القانون 318/2001)، والتي لها القدرة على الوصول إلى الكثير من المعلومات، ودورها محوري في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب في القطاع المصرفي، وبالتحديد كشف الـ Proxies (عزيز على قلب المجتمع الدولي).
أما خارج القطاع المصرفي فهناك دور محوري للأجهزة الأمنية من مخابرات الجيش والمعلومات وأمن الدولة بإشراف قضائي، لملاحقة وكشف المخالفين. وبحسب تقرير «مجموعة العمل المالي الدولية» في كانون الأول من العام 2023، تمتلك هذه الأجهزة معلومات كثيرة عن الفاسدين، إلا أن التدخلات السياسية منعت القضاء من إجراء المُقتضى.
فهل تغيّرت الأمور مع العهد الجديد؟ وهل نشهد مُحاسبة وملاحقة للمرتكبين، خصوصا من عليهم إثباتات؟ الأيام المقبلة كفيلة بالردّ على هذه الأسئلة.
جاسم عجاقة - "الديار"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|