سوريا المضطربة.. كيف تستطيع العيش داخل حقيبة؟
أنت في سوريا، إذن عليك أن تنسى كل ما كتبه "هوغاستون باشلار"، عن أثر "البيت"، في النص واستقرار الإنسان، لتتبنى نظرية "اللابيت"، التي تفتك بتضاريس روحك ووجهك، ثم تحولك لإنسان آخر.
المكان رجراجٌ في سوريا، والمعارك يمكن أن تشتعل في أي لحظة، لهذا ستتقبّل فكرة السكن في حقيبة، إيثارًا لسلامة أبنائك، الذين ربيتهم "كل شبر بندر".
ذاكرة مثقوبة بالرصاص
حقيبة مركونة خلف باب "الشقة"، يجب أن تبقى جاهزة للانطلاق، في داخلها عيّنات صغيرة من حياتك السابقة: "البطاقة الشخصية، وشهادة الجامعة، وملعقتان وصحنان صغيران، وغيار داخلي واحد، وبشكير"، هي كامل تركتك من هذه البلاد، ستحملها وتمضي، مع الرميات الأولى لرشاش الـ23.
يضرب أبو راجي، براحتيه على رأسه، بعد أن اكتشف أنه نسي حمل حقيبة الطوارئ من وراء الباب، قبل مغادرة المنزل، ويقول: "انهمكت بالأطفال، ثم حملت الصغير منهم، قبل أن ننطلق بسرعة لأن طلقات الرشاشات، بدأت تخترق حيطان البناية".
مغفرة القناص
نسي أبو راجي، "الشنتة"، وطنه البديل، المحمول في حقيبة، وداخلها جميع أوراقه الثبوتية وشهاداته وسند ملكية البيت، لكن التفكير بالعودة لاسترجاع الحقيبة، يعد ضربًا من الجنون، بعدما تجاوز وعائلته الدرب الزراعي، من بساتين جرمانا، باتجاه طريق المطار.
يسألنا أبو راجي: "هل سيغفر لي القناص خطئي، ويسمح لي بالعودة لاسترجاع الحقيبة؟".
تكبر حقيبة الطوارئ، أو تصغر، تبعًا لاهتمامات الأشخاص، ومستواهم المادي، فحقيبة الطوارئ الخاصة بـ"جودي" كبيرة بما يكفي لحمل متطلباتها الشخصية، مع متطلبات كلبها "بابلو".
تقول جودي: "لم يكن يخطر ببالي، أن الكلاب يمكن أن تنزح بسبب الحروب، لكنها كائنات لها أرواح ومشاعر مثلنا؛ وأنا لا يمكن أن أترك كلبي وأهرب مهما كانت المخاطر".
أفضل المقتنيات
يفضل السوريون الساكنون في مناطق غير مستقرة، اقتناء حقائب طوارئ، يمكن حملها على الظهر، فهي تسهل عليهم المشي مسافات طويلة، وغالبًا ما يختارون الحقائب ذات الطبقات المتعددة المزودة بسحّابات، حتى يمكنهم تقسيم الأغراض بشكل منفصل.
يقول علي، طالب سنة رابعة ترجمة، إن حقيبة الطوارئ الخاصة به، لا تتضمن سوى جهاز اللاب توب، وعدة فلاشات صغيرة، هي حصيلة عمله في ترجمة الكتب والمقالات.
بالإضافة إلى أوراقه الرسمية، فالجوارب والقمصان يمكن تعويضها، كما يقول، لكن تراثه الفكري الذي يعتز به، من الصعب استرجاعه إذا ضاع.
وصف شاعري
يأخذ علي، الموضوع باتجاه شاعري فيقول: "ستترك "الحصان وحيدًا" وأنت تغادر، رهانًا على نبوءة درويش بأن "موتًا طائشًا سيضلّ الطريق إليك..". لا بد أن تنسى "قارورة العطر" التي استخدمها نزار قباني لوصف منزله الشاميّ، لتختار "غرفةً بملايين الجدران" سكنها الماغوط، وحولته مع الأيام إلى "عصفور أحدب".
تعرضت جرمانا لهجوم من الجهة الجنوبية الشرقية، قتل على إثرها 10 شبان من أهالي المدينة والأمن العام، كما سقطت عدة صواريخ بين المنازل، ما دفع السكان إلى القبض على حقائبهم الصغيرة والهروب.
تكرار اللجوء
ولكن الذين اختاروا اللجوء إلى صحنايا، كان عليهم تكرار تجربة النزوح مرة أخرى، وكانت وجهتهم الجديدة "قرى جبل الشيخ".
ارتفاع عدد الضحايا المدنيين، وقوافل الفارين من المعارك، دفعت منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية آدم عبد المولى، للمطالبة بالمحافظة على حياة المدنيين، خاصة بعد استهداف العاملين في المجالين الإنساني والطبي، قائلًا إنه "انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني".
لكن تحذيرات الأمم المتحدة من وقوع ضحايا بين المدنيين، لم تجد نفعًا، فخلال 48 ساعة من بدء المعارك، في جرمانا وصحنايا، ارتفع عدد الضحايا إلى 74 شخصًا، تبعًا لإحصائيات المرصد السوري لحقوق الإنسان.
جرعة من اطمئنان
يطلب منا أبو راجي، ونحن نحاول رفع معنوياته، وتزويده بجرعة من الاطمئنان، أن نعود إلى تقرير "سي أن أن" الذي نشر مقاطع فيديو لمسلحين متطرفين يرددون شعارات طائفية، وهم يحاصرون جرمانا.
ويقول أبو راجي: "كيف أطمئن وأنا أرى كل ذلك بأمّ العين... فقط لو تمكنت من جلب حقيبتي الصغيرة معي، فأنا، الآن، بلا تاريخ ولا مستقبل، لأن أوراقي الرسمية ضاعت".
الأحداث تفاقمت للأسف، كما توقع أبو راجي، فوصل عدد القتلى إلى 100 شخص في اليوم التالي، كما تم إعدام رئيس بلدية صحنايا وابنه، كما أورد المرصد السوري لحقوق الإنسان.
في الهجوم الأول على جرمانا، تناول السوريون، حقائبهم المركونة باستعداد خلف أبواب شققهم، المثقبة بالرصاص وشظايا الصواريخ وانطلقوا عبر الطرق الزراعية بين الأشجار، خوفًا من عيون القناصين، ومجموعات "الأخوة الأعداء"، الحالمين بالغنائم واقتسام السبايا.
يصف علي المشهد، مرة أخرى بشكل شعري، فيقول: "هم يمسكون البواريد، ورشاشات الـ "بي كي سي"، وأنت تقبض على حقيبتك، التي ستصبح وطنك، إذا ما كُتبت لك النجاة".
ويضيف: "معلقة واحدة، وصحن، وفرشاة أسنان، ودفاتر مذكرات، وصور شخصية، مع قمصان مهترئة وسروال واحد، مع علبة مهدئات، وأوراق رسمية، تثبت أنك من هنا، من هذا المكان الذي لفظك، لكنك حرصت على حمل مفتاح البيت، عسى أن تعود الجغرافيا لرشدها، يومًا ما".
تفكيك الحقيبة
في محاولة لتفكيك الحقيبة، من الناحية التشكيلية، يقول الفنان نبيل السمان، واصفًا المشهد: "الأوطان الموزعة في حقائب صغيرة محمولة على الأكتاف، ظهرت مع قوافل الهاربين من معارك جرمانا، بعضهم كانوا بلا وجهة، وآخرون استقبلهم أصدقاء في أحياء أخرى. لكن الحقيبة يمكن أن تتحول إلى مسكن، إذا ضاقت بيوت الناس، فالحدائق في قلب العاصمة، تستطيع استقبال تلك الجموع، شرط ألا يفارقوا حقائبهم التي تحوي تفاصيلهم ومستنداتهم الرسمية".
ومع التوصل إلى اتفاق بين ممثلي الحكومة وأهالي جرمانا، عاد أبو راجي إلى بيته، ليجد حقيبته خلف باب الشقة، كما تركها، ويقسم لنا:
"سأربطها بحبل مع بقية الحقائب الأخرى، حتى لا ننسى شيئًا من أرواحنا إذا ما تكرر الرحيل.. فالحقيبة اليوم، هي الوطن، رغم رائحة المنفى التي تفوح من جيوبها وسحاباتها، المغلقة بإحكام على ما خفّ وزنه، وكبر أثره في الروح".
يستعير أبو راجي، عبارة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة: من الشاعر درويش، لكنه لا يمانع، مؤقتًا، باختصار الأرض، بحقيبة صغيرة، يحمل فيها حلم الاستقرار والأمان، الذي لا بد أن يعود يومًا.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|