فرنجيّة والسعودية والحزب بينهما..
حين وصلت الدعوةُ السعودية الى رئيس تيّار المردة سليمان فرنجيّة لحضور حفل اليونيسكو في الذكرى 33 لاتفاق الطائف، سارعَ الى تأكيد حضوره دونَ استشارة أحد من محيطه ودون التشاور مع حزب الله. فهو أولاً يُفاخرُ بأنَّ جدّه سليمان كان من أكبر رُعاة الاتفاق، ويعتبرُ ثانيًّا أن علاقة العائلة بالسعودية أكثر من جيّدة، ويرى ثالثًا أن أيّ تعديلٍ بالنظام اللُبناني في الوقت الراهن يُنذرُ بحربٍ أهليّة.
في أرشيف عائلة فرنجيّة الذي لم يُنشر بعد، أسرارٌ ورواياتٌ تكشِفُ الكثير، ومنها مثلاً كيف أنَّ سليمان فرنجيّة (الحالي) ذهب مع باسل الأسد للقاء الرئيس السوري حافظ الأسد بطلبٍ من الأخير، واستمع منه إلى شرحٍ دقيق حولَ وجوب قبولِ جدّه سليمان بترشيح رنيه معوّض للرئاسة. وبعدَ أن استفاض الأسد (على عادته) في شرح التاريخ والحيثيات والمسوّغات والمسبّبات، اكتفى فرنجية بالقول:” لستَ بحاجة لكلّ هذا الشرح يا سيادة الرئيس، فأنا سأقول لجدّي أن يوافق كرمى لك وهو حتمًا لن يرفض”.
عاد الشاب سليمان وكان في الرابعة والعشرين من عُمره متحمّسًا لإقناع جدّه، وقال لبعض صحبِه مُمازِحًا على الطريقةِ الزغرتاوية:” والله سأطلق النار على جدّي إن لم يقتنع، فآل معوّض أصدقاؤنا، ورنيه رجلٌ جيد، والأسد يُحبُّنا واتفاق الطائف صيغَ في بلد عربيّ عزيز وليس في دولة أجنبية طامعة”. ثم ذهب لعند جدّه وقال له:” الرئيس الأسد يتعاطى معنا بود، يمكنُك مخاصمتَه لكن رنيه معوّض سيفوز بلا موافقتِك لأنه خيارٌ عربيٌ ودوليٌ ومحليّ، أو تبارك له وتكون شريكاً في انتخابه وتتعمّق العلاقة مع الرئيس السوري”. طلبَ الجدُّ أن يستمهلَه حفيدُه القريب إلى قلبه وعقله حتّى اليوم التالي، فقال الحفيدُ ببعضِ جدٍ وابتسامة:” أقبلُ بذلك شرط أنْ يكون جوابُك غدًا إيجابيًّا”. وفي اليوم التالي كان الجواب كما تمنّى الحفيد.
حين وصلَ رنيه معوّض إلى مطار القليعات، كانت عائلة فرنجية منقسمةً بين الجدّ والحفيد المؤيدَيْن له، والعمُّ المُعترض، لكنَّ سليمان الصغير ذهب بسيّارته الى المطار واصطحب معه معوّض لعند جدّه، وكان اللقاءُ وديًّا إلى أقصى حدّ، وشكر الزائرُ مضيفَه بكل عبارات الثناء والعرفان والقُبَل.
في كلّ مسيرته السياسيّة الحديثة بقيَ سليمان فرنجيّة داعمًا لاتفاق الطائف ورافعًا لواءَ عروبة لُبنان، وحريصًا على نسج علاقاتٍ جيّدة مع معظم الدول العربية والدوليّة، حتّى ولو أنَّ صداقةً عميقةً ربطته بالرئيس السوري بشّار الأسد وتسبّبت له منذ اندلاع شرارات الحرب الثورية بموجة انتقادٍ وشجبٍ من قِبَل الطرف المناهض للنظام السوري والعاملِ على إطاحته.
من طريف روايات أرشيف آل فرنجيّة غير المنشور بعد أيضًا، كيف أنَّ نائبَ الرئيس السوري عبد الحليم خدّام كان متعجرِفًا حين حضر الى زغرتا للمشاركةِ في الاجتماع العام حول رنيه معوّض، فما كان من الشاب سليمان الاّ أن رفض طلب جدّه باصطحاب خدّام بسيّارته الى منزل معوّض، وحين سأله خدّام بعد ذلك عن السبب ، قال له :” لأنّي شعرتُ بأنَّك لم تكن ودودًا معي”، فقال خدّام :” نحن مُجبرون على محبّة كلّ مَنْ يُحبّه الرئيس حافظ الأسد”، فسارع سليمان إلى الإجابة :” وأنا أُجنّبُك هذا الواجب، ويمكنُك الاّ تُحبّني فهذا لن يُقدم ولا يؤخر بشيء بالنسبة لي”. هذه كانت وما زالت واحدة من صفاة سليمان فرنجيّة: التمرّد المقرون بالصراحة مهما كان الثمن.
فرنجية والسعودية اليوم
كلّ هذه المُقدّمة هي للتأكيد على أن لا مُشكلة عميقة بين سليمان فرنجية والسعوديّة، وهو حتمًا يُدرك أنّه يدفع ثمنَ الخلاف الكبير بين الرياض وحزب الله، حيث أنَّ المملكة السعودية ترفض تكرار تجربة الرئيس ميشال عون وتسعى لمواجهة احتمال أنْ يصلَ مرشّحٌ يتبنّاه الحزب للرئاسة رغم كلّ المساعي الفرنسيّة التي تقول بأن الرئاسة مستحيلةٌ بلا تسوية مع الحزب.
لا يتحرّك سليمان فرنجية لإذابة بعض الجليد مع أطراف الداخل والخارج. وهو يقول لمن يزوره سائلاً عن حظوظه في الرئاسة:” والله كيف ما تجي تجي، فإذا انتخبوني رئيسًا سأقوم بكلّ واجباتي على أكمل وجه، وإن لم ينتخبوني فلن يتغيّر شيءٌ بالنسبةِ لي، لكنّي حتمًا لستُ من النوع الذي يمضي نهارَه في تمسيح الجوخ لكسب رضى هذا الطرف الداخلي أو ذاك المؤثر الخارجي”.
سمِعَ زُوّار فرنجية منه غيرَ مرّة كلامًا إيجابيًّا حول إصلاحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الداخل. قال إن الرجلَ ذهبَ ابعد ممَّا توقّع كثيرون في انفتاحه الاجتماعي ومراجعتِه للأسس الدينيّة بما فيها الوهّابية وبحثِه عن البدائل الاقتصادية للنفط وندّيته في التعاطي مع إدارة جو بايدن، وقال أيضا:” المهم أن يستمرّ في ذلك لمصلحة السعودية، خصوصًا أنّ ثمةَ من يتربّص بكلّ إصلاح او تمرّد”.
سمع الزوّار أيضًا كلامًا عن حرصِ فرنجية على طمأنة الجميع لو وصل إلى الرئاسة، وهنا تعود بعض ذكريات أرشيف العائلة غير المنشور إلى ذاك اللقاء الشهير بين فرنجيّة والرئيس سعد الحريري حين جرى نقاش الرجلين حول قانون الستين الانتخابي، فقال زعيمُ المردة:” كُن على يقين أنّي لن أوافق على أيّ أمرٍ يمس مصالح أهلنا السُنّة في لُبنان أو مصالح أي طائفة أخرى”.
وحين يتمّ التطرّق الى صلابةِ موقف فرنجيّة في مناهضة إسرائيل، يحضُر من الأرشيف الزغرتاوي روايةٌ كان يُردّدها حافظ الأسد لزوّاره وبينهم سليمان فرنجيّه الجد، ونقلها وزير الخارجية الأميركية هنري كيسنجر في كتابه : ” سنوات التجديد”. ومفادُها وفق حرفية ما كتب كيسنجر كالتالي :” قال الملك السعودي عبد العزيز للرئيس فرانكلين د.روزفيلت :” لماذا يجب على العرب أن يدفعوا بأراضيهم ثمن الجرائم التي ارتكبتها أوروبا بحقّ اليهود؟ ولماذا يتوجّب على العرب أن يقبلوا بادعاءات كتابٍ مُقدّس لدين هم أنفسهم (أي اليهود) لا يعتنقونه”. غالبًا ما كان هذا الموقف والدعم السعودي للُبنان والقضية الفلسطينيّة موضع ترحيب عند آل فرنجيّة الذين دعموا نضال الفلسطينيين في أرضهم وشجبوا غرق المنظّمات الفلسطينية في مستنقع السياسة اللبنانية.
ضمانات فرنجية للسعودية
اذا كانت كرامةُ سليمان فرنجيّة التي طالما ميّزت شخصيته، تمنعه من الإدلاء بأي تصريح اليوم يُشتمُّ منه أنّه يُجامل، غير أنَّ عارفيه ينقلون عنه أنّ الرجلَ يعترف بضرورة أن يمنح أيُّ رئيسٍ لُبناني، ضماناتٍ للسعودية في لُبنان، ولذلك فهو يؤكد الحرص على عدم المساس بالطائف الاّ أذا اتفقت كل الطوائف اللُبنانية على التعديل، ويعتبر أنّ بحث الاستراتيجية الدفاعية واجبٌ لكنَّه يستند أولاً وأخيراً الى نقاشٍ حقيقي بين الأطراف اللُبنانيّة لحفظ الوطن من عدوه وليست قرارًا رئاسيًّا، ويرى أنّ البحث حاليًّا عن رئيسٍ، ليس معزولاً أبدًا عن الاتفاق ايضًا على شخصية رئيس الحكومة والذي سيكون للسعودية حتمًا كلمتها في هذا السياق.
يثقُ سليمان فرنجيّة بأن الثنائي الشيعي يضعه أولويّةً في خيارات الرئاسة، وبأن صفة ” عدم الطعن بالمقاومة” التي أطلقها أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله تنطبقُ عليه، وثمّة قناعة عند المقرّبين منه بأن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جُنبلاط لن يمانع في انتخابه لو لمع ضوءٌ أخضر سعودي، ومصرُ التي يلعب سفيرُها ذو الثقافة الاستثنائية والعلاقات العميقة محليًّا ودوليًّا ياسر علوي أدوارًا كثيرة خلف الأضواء لا تُمانع بسليمان فرنجية رئيسًا، والمؤشرات الفرنسية وحتى الأميركية لا تشي بالاعتراض، لكنَّ الأمر يحتاجُ أولاً وأخيرًا الى تسويةٍ إقليمية ودولية ومحليّة تكون فيها السعودية حاضرة ومؤيّدة.
هنا بالضبط تكمنُ العقدة الكأداء، كيف يُمكن للسعودية أن تفصلَ بين سليمان فرنجية وحزب الله؟ وهنا يكمنُ احتمالُ نجاح التسوية المُقبلة فتتسارع خطوات انتخابِ سليمان فرنجّية رئيسًا، أو انفراط عقدِها فيطول الشغور ويهتز كلّ شيء بما في ذلك الأمن، ذلك أن البلد ما عاد يحتمل إدارة أزمات بعد أن بلغَ الفقرُ مداه. أما اختيارُ اسم ثالث للتوافق غير سليمان فرنجية وجبران باسيل، فهذا ممكن، ولكن بأي ثمن وبعد أي مصيبة؟ أما الشعارُ الأهم عند فرنجية اليوم فهو القائل بأنه لا يقبل بأن يكون مُرشّح مواجهة أو فتنة...
سامي كليب - لعبة الأمم
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|