التجويع الممنهج… سياسة الإبادة الصامتة في غزّة!

المجاعة في غزة لم تعد احتمالاً نظرياً. هي واقع يتفاقم بشكل يومي، وسط عجز إقليمي واضح وتواطؤ دولي متكرر، في وقت تتزايد فيه التحذيرات من منظمات إنسانية ومؤسسات طبية تنشط في الميدان. فمنذ بداية آذار 2025، بدأت المؤشرات الميدانية تتصاعد، وفيات موثّقة بسبب الجوع، حالات سوء تغذية حاد بين الأطفال، وانقطاع شبه كامل للمواد الغذائية الأساسية في مناطق واسعة من القطاع. ولعلّ ما يجري، لا يندرج ضمن إطار أزمة إنسانية تقليدية، بل يتجاوز ذلك إلى نمط منظَّم من الحصار بالتجويع، يُدار بآليات سياسية تحت غطاء "تنظيم المساعدات" و"الاعتبارات الأمنية".
وفقاً لتقارير صادرة عن منظمات دولية فإن أكثر من 1.9 مليون شخص يواجهون خطر المجاعة المباشرة، من بينهم 924 ألفاً يعانون من الجوع الشديد، فيما تُقدَّر الحالات المصنّفة ضمن المستوى الكارثي بـ244 ألفاً. وتشير أحدث البيانات إلى ارتفاع عدد وفيات الجوع إلى 101 حالة موثقة، من بينهم 80 طفلاً، خلال الاسابيع الاخيرة.
في هذا السياق، برزت ملامح ما يُشبه سياسة جديدة تعتمد على التجويع الممنهج، فقد أصبح واضحاً أن القيود على المساعدات ووتيرة توزيعها والتأخير المقصود في إدخالها، كلها تُدار ضمن منطق الضغط المتعمد، الذي يتجاوز الضرورات الأمنية ليطال الحد الأدنى من مقومات البقاء.
وفي موازاة ذلك، لم يتوقف استهداف المدنيين بشكل مباشر. فقد وصل اليوم عدد من المصابين إلى المستشفى المعمداني في غزة، جراء قصف إسرائيلي استهدف مجموعة من الأشخاص في أثناء انتظارهم للمساعدات شمالي غرب المدينة. وهذا المشهد، وفق مصادر مطلعة، يتكرر يومياً في أكثر من نقطة توزيع، ما يعكس حجم المخاطر التي تواجه السكان حتى في سعيهم للحصول على الغذاء.
في الوقت ذاته، لا يزال دخول المساعدات الإنسانية يخضع لتفاهمات سياسية معقّدة، ويتوقف على ترتيبات بين أطراف إقليمية ودولية، ما جعل عملية الإغاثة رهينة للمفاوضات لا للاستجابة الطارئة. وتؤكد منظمات إغاثية عاملة في غزة أن المساعدات لا تدخل كحقّ مشروع للمحاصَرين، بل كمادة تفاوضية ظرفية، تُمنح وتُمنع بحسب الاعتبارات السياسية، لا بحسب الحاجات الميدانية.
وقد انعكس ذلك ميدانياً في حوادث متكررة شهدت سقوط عشرات الضحايا في أثناء انتظارهم أمام نقاط توزيع المساعدات. إذ تحدثت مصادر محلية عن وفيات ناتجة عن التدافع وسوء التنظيم، في ظل غياب الحماية أو الإشراف الميداني الكافي. كما وثّقت مقاطع مصوّرة تم تداولها عبر منظمات حقوقية وجود جثث في محيط شاحنات المساعدات، لأشخاص قضوا أثناء محاولتهم الحصول على مواد غذائية محدودة.
قانونياً، يؤكد خبراء في
القانون الدولي الإنساني أن استخدام التجويع كأداة في النزاعات يُعد انتهاكاً جسيماً لاتفاقيات جنيف، ويرتقي إلى جريمة حرب. وعلى الرغم من توافر الشروط القانونية لتوصيف ما يجري في غزة بهذا الشكل، إلا أن عدم تفعيل أدوات المحاسبة الدولية، أبقى هذا الملف في دائرة التوثيق من دون مساءلة أو تبعات قانونية حقيقية.
وفي مقارنة تاريخية، تُشبّه جهات بحثية مستقلة ما يجري في غزة اليوم بما حدث في حصار لينينغراد خلال الحرب العالمية الثانية. فقد أدى الحصار النازي على المدينة السوفييتية عام 1941 إلى مقتل أكثر من مليون مدني جوعاً وبرداً خلال 872 يوماً. الفرق أن ذاك الحصار أدين لاحقاً دولياً، بينما تستمر ممارسات مشابهة في غزة من دون موقف واضح أو إجراء فاعل من المجتمع الدولي.
في الجانب العربي، لا تزال المواقف الرسمية محدودة التأثير، وتتراوح بين بيانات شجب عامة وتصريحات لا تُسمّي المسؤول المباشر، ولا تضع أي آلية عملية للتعامل مع الكارثة. في المقابل، ظهرت مبادرات فردية من مؤسسات مدنية وجمعيات شعبية حاولت تقديم الدعم، سواء من خلال حملات تبرّع أو إرسال شحنات غذائية محدودة، لكنّ أثرها بقي محصوراً في الرمزية، من دون قدرة فعلية على إحداث تغيير في المعادلة الميدانية.
أما التحركات الشعبية، فاقتصرت على احتجاجات متفرقة أو حملات تضامن عبر مواقع التواصل، لم تلقَ صدى فعلياً لدى الجهات القادرة على فتح المعابر أو تسهيل إدخال المساعدات. ووفق ناشطين ميدانيين، فإن المعابر لا تزال خاضعة لحسابات سياسية وأمنية، تتجاوز السياق الإنساني المباشر، وتضع غزة في موقع الضغط لا الحماية.
اليوم، لم تعد الحرب في غزة تُخاض بالعمليات العسكرية فقط، بل بمنع الغذاء والدواء، وبالإبقاء على السكان تحت الحد الأدنى من البقاء. العدوان الوحشي، في ظاهره، تضاءل بشكل أو بآخر، لكن الحصار مستمر، والجوع بات السلاح الأكثر فتكاً. وفي ظل غياب أي تحرك مسؤول، يتواصل الانهيار من دون ضجيج، وتُسجّل الإبادة فصولها يوماً بعد آخر، في ظل حضور دولي يكتفي بالمراقبة، بينما الجريمة مستمرة بلا محاسبة.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|