رئيس الأركان الإسرائيلي من جنوب لبنان: لن نسمح للتهديدات بالنمو من جديد ولا تراجع للوراء
روسيا في سوريا ما بعد الأسد.. من حليف إلى منسّق فوق وطني
منذ سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، دخلت سوريا مرحلة انتقالية يتداخل فيها الفراغ السياسي والأمني مع إعادة رسم خريطة النفوذ الإقليمي والدولي. وفي خضم هذا المشهد المعقد، وجدت روسيا نفسها أمام تحدٍ لإعادة التموضع، ليس بوصفها الراعي الحصري للنظام كما كان الحال طوال سنوات الحرب، بل كمنسّق فوق وطني يتقاطع مع مختلف المسارات السياسية والأمنية والاقتصادية في سوريا الجديدة، كونها بقيت متحكمة بملفات حساسة قرابة عقد من الزمن.
مؤخراً، لم تكن زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو مجرد خطوة بروتوكولية، بل إعلاناً من الجانبين عن نية إعادة صياغة الدور الروسي بعناية، بحيث يتحول من وصاية سياسية إلى شراكة مشروطة بالمصالح المتبادلة. هذا التوجه ترافق مع مراجعة شاملة للاتفاقات الموروثة من عهد الأسد، بما في ذلك ملفات القواعد العسكرية والامتيازات الاقتصادية طويلة الأجل. اليوم، تدير موسكو خمس ملفات أساسية في سوريا: العمليات العسكرية، المسار الدستوري، إعادة الإعمار، المصالحات الوطنية وترتيبات الأمن الداخلي والعلاقات الخارجية مع تركيا وإسرائيل والتفاهمات حول الجنوب والشمال.
إلا أن بقاء القواعد الروسية – رغم أنه يبدو على الورق دليلاً على استمرارية الالتزامات الثنائية – يخفي وراءه واقعاً أكثر تعقيداً. فهي باتت معزولة عن البنية السياسية واللوجستية للنظام الجديد، على عكس ما كانت عليه في عهد الأسد. كما أن إلغاء اتفاقية الاستثمار الروسي في ميناء طرطوس لصالح شركة إماراتية، شكّل رسالة واضحة برفض منح روسيا موقعاً محورياً في ملف إعادة الإعمار. تتحرك موسكو اليوم بأسلوب تكتيكي أكثر من كونه استراتيجياً، وكأنها تحافظ على حدٍّ أدنى من التواصل السياسي لضمان بقاء الحضور. لكن دمشق تبدو أقل حماسة لاستعادة دفء العلاقة السابقة، بل ذهبت إلى تجميد أصول النخب المرتبطة بالنظام القديم، بما في ذلك التحويلات عبر البنوك الروسية، في إشارة إلى أن روسيا لم تعد شريكاً متساوياً.
على الصعيد الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، تراجع الحضور الروسي لصالح قوى أخرى مثل تركيا وقطر والولايات المتحدة، ما يجعل الأشهر التي تلت سقوط الأسد دليلاً على أن الاستراتيجية الروسية السابقة استنفدت أغراضها، فيما لم تتبلور بعد رؤية بديلة للتعامل مع الواقع الجديد. يمكن ان نلاحظ أن الابتعاد السوري النسبي عن روسيا مرتبط بإغراء العروض الغربية لدعم السلطة الجديدة مقابل تقليص الوجود العسكري الروسي. ومع ذلك، لم يذهب الرئيس أحمد الشرع إلى القطيعة، بل اتبع نهجاً حذراً يوازن بين الضغوط الدولية ومصالح بلاده، في وقت لم تطالب فيه واشنطن – خلافاً لتوقعات الأوروبيين – بانسحاب كامل للقوات الروسية، بل شجعت أحياناً على إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة. أما إسرائيل، فترى في بقاء النفوذ الروسي ضمانة لتحقيق توازن مع تركيا وضبط الوضع في الجنوب السوري.
الإرث العسكري والاقتصادي
على مدى العقد الماضي، ولا سيما منذ تدخلها العسكري المباشر عام 2015، لم تلعب روسيا دور الشريك الاستراتيجي بقدر ما كانت قوة خارجية تتحكم بمسار الصراع بما يخدم مصالحها. عسكرياً، لم يكن تدخلها بهدف إنهاء معاناة السوريين، بل لضبط ميزان القوى لصالح النظام وضمان استمرار التبعية وضمان حضورها أمام المعسكر الغربي. قادت المعارك الكبرى في حلب وغوطة دمشق ودرعا وإدلب، وأعادت هيكلة الجيش السوري ليصبح أداة مرهونة، عبر تشكيل وحدات موالية مثل "الفيلق الخامس"، وإنشاء منظومة أمنية موازية مرتبطة مباشرة بتوجيهاتها.
اقتصادياً، تحولت الحرب إلى فرصة ذهبية لروسيا لاستثمار اقتصاد النزاع وتجربة أكثر من 320 نوعاً من الأسلحة، إلى جانب توقيع عقود طويلة الأجل في مجالات الفوسفات والمرافئ والطاقة. هذه الامتيازات كانت بمثابة "عملة سياسية" لضمان الولاء، إذ جرى توزيعها على أساس القبول بـ"خارطة الطريق الروسية" للمرحلة الانتقالية. وحتى بعد تراجع نشاط "فاغنر"، بقيت بصمتها من خلال شركات أمنية وميليشيات تعمل وفق نموذج "الظل العسكري" الذي يجمع بين السيطرة غير المباشرة وتحقيق الأرباح. لم تأتِ روسيا في مرحلة ما بعد الأسد لتمنح السوريين فرصة تقرير مصيرهم، بل لفرض نسختها الخاصة من "السيادة" و"الشرعية". هي اليوم طرف يتفاوض بعيداً عن مختلف الفاعلين في سوريا – من الخليج إلى تركيا وإيران – لتعيد الدور المتحكّم بالمرور عبر قنواتها إذا أرادوا دخول المشهد السوري؛ لا سيما وأن قبولها بالحكومة الانتقالية الجديدة برئاسة أحمد الشرع لم يكن مؤشراً على انفتاح، بل على براغماتية تتيح لها الحفاظ على نفوذها مهما تغيّرت الوجوه.
حتى في الملف الكردي، انتقل خطابها من سياسة "ضبط التمدد" إلى طرح شروط للإدماج الوطني، لكنها شروط ترفض عملياً أي مشروع يمنح الأكراد استقلالية حقيقية. اللقاءات مع الحكومة الجديدة تحولت إلى مساحة لإعادة التفاوض على ترتيبات تضمن بقاء موسكو لاعباً أساسياً، لا شريكاً على قدم المساواة.
دبلوماسية المصالح وإدارة الصراع
خارج سوريا، لا تستخدم روسيا ثقلها الدبلوماسي إلا في الملفات التي تمنحها نفوذاً إضافياً، من لبنان إلى العراق، حيث تعمل وساطاتها كأدوات للمقايضة مع القوى الكبرى. وفي شمال سوريا، تلعب دور الوسيط بين الأكراد والأتراك، لا لحماية المدنيين أو إنهاء الصراع، بل لضمان بقاء الوضع تحت سقف لا يهدد مصالحها.
ومع انحسار الدور الإيراني، وجدت روسيا نفسها قادرة على طرح حلول مؤقتة تضمن بقاءها، لا حل النزاعات، لا سيما في ملفات اللاجئين والحدود والمساعدات التي تُدار من منظور يوازن بين إبقاء سوريا ممزقة، وضمان عدم خروجها عن السيطرة. ففي الفترة بين 2018 و2024، كانت روسيا عرابة برنامج "المصالحة الوطنية" الذي استُخدم لإخضاع فصائل المعارضة المسلحة وفق خيارات ضيقة: الترحيل إلى إدلب، أو تسليم السلاح والعودة إلى الحياة المدنية، أو الانضمام إلى الفيلق الخامس. ورغم إمكانية إعادة تفعيل لجان المصالحة، فإنها لم تكن يوماً خطوة نحو مصالحة حقيقية، بل أداة لإعادة إنتاج السيطرة المحلية. لم يكن سقوط الاسد نهاية النفوذ الروسي، بل بداية لمرحلة أكثر مرونة وأقل تكلفة، إذ لم تعد موسكو مضطرة للدفاع عن شخص أو نظام، بل تكتفي بضمان "استقرار وظيفي" يحافظ على مصالحها. ومع ذلك، أظهرت الحكومة الجديدة رغبة في تقليص الاعتماد عليها، من إلغاء عقد ميناء طرطوس، إلى طباعة العملة في ألمانيا فور رفع العقوبات. لكن الكرملين لا يزال ممسكاً بخيوط حيوية، من النفط والحبوب إلى العقود الاقتصادية والشبكات الأمنية.
مسارات مستقبلية
تبدو العلاقة بين دمشق وموسكو بعد سقوط الأسد محكومة بثلاثة مسارات محتملة، لكل منها شروطه ومخاطره. المسار الأول هو استمرار البراغماتية المتبادلة، بحيث تحافظ روسيا على نفوذها العسكري والأمني والاقتصادي عبر أدوات أقل تكلفة، فيما تستفيد سوريا من هذا النفوذ كورقة توازن في علاقاتها مع القوى الإقليمية والدولية، دون العودة إلى حالة الارتهان الكامل. هذا المسار هو الأكثر ترجيحاً في المدى القصير، خصوصاً مع رغبة الطرفين في تجنب القطيعة الكاملة.
المسار الثاني يقوم على إعادة تعريف التحالف، بحيث تُجبر روسيا – تحت ضغط المنافسة الإقليمية والتقارب السوري مع العرب والغرب – على قبول دور أقل مركزية، ربما أشبه بـ"الشريك الجزئي" في ملفات محددة، كالتنسيق الأمني وضمان الاستقرار في مناطق معينة. نجاح هذا المسار يعتمد على قدرة دمشق على تنويع مصادر الدعم الاقتصادي والسياسي، وعلى استعداد موسكو لقبول تقليص نفوذها مقابل الحفاظ على مصالح أساسية.
أما المسار الثالث فهو تفكك العلاقة التدريجي، في حال تزايد الضغوط الغربية والعربية لتقليص الوجود الروسي، أو في حال فشل موسكو في التكيف مع البيئة السياسية الجديدة في سوريا. عندها قد تنحصر علاقة الطرفين في التنسيق الحد الأدنى، مع بقاء روسيا فاعلاً غير مؤثر إلا في مناطق محدودة، خصوصاً في الساحل وبعض النقاط الاستراتيجية.
في المحصلة، سيعتمد مستقبل العلاقة السورية–الروسية على توازن ثلاثية حساسة: رغبة دمشق في التحرر من الارتهان، وحرص موسكو على حماية مصالحها، وقدرة القوى الإقليمية والدولية على التأثير في هذا التوازن. وفي ظل البيئة السورية الممزقة والمعقدة، يبدو أن موسكو ستواصل لعب دور المنسّق لسنوات مقبلة، وإن كان نفوذها هذه المرة أقل صخباً وأكثر اعتماداً على إدارة النفوذ من وراء الكواليس، لا على فرضه بالقوة المباشرة.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|