“الاعتماد المصرفي”… تقرير ضائع منذ عام ونصف
ليبانون ديبايت”
يتصاعد الجدل حول مسار التحقيقات في ملف بنك الاعتماد المصرفي، ولا سيما حول عمل المدقق الجنائي ميشال أبو جودة، المعيّن من قبل المدير الموقّت للبنك وبالتنسيق مع مصرف لبنان. فبدلاً من إنجاز تدقيق جنائي وإداري شامل وكامل، يظهر أنّ العمل الجاري حتى الآن محكوم بالاجتزاء المتعمّد، إذ لم يصدر حتى اليوم تقرير نهائي رغم أن تكليفه جرى في شهر آذار من العام الماضي. وقد حُصرت المسؤوليات بعدد محدود من الأشخاص، فيما جرى تجاهل الرؤوس الأساسية التي خططت وأشرفت على نهب أموال المودعين، مستغلّة جشع رئيس مجلس إدارة المصرف ونهمه للمال.
فالتدقيق المطلوب لم يكن يراد له أن يبقى شكلياً، بل كان يفترض أن يشمل تحقيقاً جنائياً وإدارياً واسعاً يمتد من أعمال مجلس الإدارة والمديرة العامة إلى شبكة رجال أعمال نافذين سهّلوا عمليات مالية مشبوهة، وتربّحوا من عمولات مرتفعة عبر صفقات غير قانونية وتسهيلات حصلوا عليها من مصرف لبنان، هم وأفراد عائلاتهم. ومع ذلك، بدا واضحاً أن التدقيق يسير في اتجاه تجنيب “الجهات الكبرى” أي مسؤولية، وإحالة الملف إلى “كبش محرقة” محدّد سلفاً.
المفارقة الصارخة أنّ تقارير صادرة عن مراكز دراسات دولية وصحف استقصائية عالمية ومحلية، معنية بفضائح القطاع المالي اللبناني، نشرت تفاصيل ما جرى في بنك الاعتماد وتوصلت إلى أسماء ومعلومات تتعلق برجال أعمال بارزين ارتبطوا بشكل مباشر بعمليات البنك. إلا أنّ هذه المعلومات لم تصل، على ما يبدو، إلى مسامع لجنة الرقابة على المصارف والمدقق الجنائي ميشال أبو جودة، اللذين بقيا مغمضي الأعين عن النظر والتدقيق في مثل هذه المعطيات. وهو ما يطرح علامات استفهام جدّية حول أسباب هذا التقصير، وإن كان يعكس حماية منظّمة لشبكة المصالح التي حكمت القطاع لعقود.
بنك الاعتماد المصرفي، الذي وُضع تحت المجهر بعد انفجار الأزمة المالية، شكّل نموذجاً صارخاً على غياب الرقابة الفعلية، وبخاصة من قبل مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف. فقد انكشفت مخالفات جسيمة: تحويلات مالية مشبوهة، تهرّب من التسويات القضائية، واستغلال ثغرات قانونية للإفلات من المحاسبة. ومع أنّ هذه الممارسات استمرّت لسنوات، فإن لجنة الرقابة على المصارف اكتفت بدور “المتفرج”، عاجزة – أو ربما ممتنعة – عن التدخل لوقف النزيف الذي دفع ثمنه المودعون من ودائعهم ومدّخراتهم.
ويرى مراقبون أنّ الاقتصار على ملاحقة أسماء محدودة في التحقيقات الجارية يعكس إرادة سياسية ومالية لحماية أصحاب النفوذ الذين كان لهم الدور الأبرز في إدارة المنظومة التي أوصلت المصرف إلى الانهيار، وقبلها مصارف أخرى. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل الهدف من هذا التدقيق أن يكون شكلياً، يكتفي بتقديم “أكباش فداء” صغيرة للرأي العام، فيما تُطوى صفحة واحدة من أكبر فضائح القطاع المصرفي في لبنان؟
وبالعودة إلى قانون النقد والتسليف، فإن لجنة الرقابة على المصارف لا يمكنها التنصّل من المسؤولية. إذ تنص المادة 13 من القانون على أنّ من مهام مصرف لبنان “السهر على سلامة أوضاع النظام المصرفي وتطوير السوق النقدية والمالية”، فيما تؤكد المادة 70 أنّ المصرف المركزي يتولّى مهمة “المحافظة على سلامة النقد اللبناني، واستقرار النظام المصرفي، وتطوير السوق النقدية والمالية”.
كما تحدد المواد 208 إلى 210 بوضوح دور لجنة الرقابة على المصارف في التحقق من أوضاع المصارف، مراقبة حساباتها، وإجراء التحقيقات اللازمة عند أي تجاوزات أو مخالفات. وبموجب هذه النصوص، فإن اللجنة تتحمّل مسؤولية مباشرة عن أي تقصير في القيام بواجباتها، خصوصاً إذا سمحت – بالصمت أو الإهمال – بتمرير عمليات مالية مشبوهة استمرت لسنوات، كما حصل في حالة بنك الاعتماد المصرفي.
من هنا، يزداد التعويل على التشكيلات القضائية الجديدة، وعلى الهيئة الاتهامية في بيروت برئاسة القاضي كمال نصار تحديداً، المشهود له بالكفاءة والنزاهة، من أجل إعادة تصويب الملف إلى مساره الطبيعي ومحاسبة المقصرين على اختلاف مواقعهم، وفي مقدمهم المدقق الجنائي نفسه. إذ إن بقاء ميشال أبو جودة في مهمته لما يقارب العام ونصف من دون إنهاء التدقيق أو كشف الحقائق الجوهرية، لا يمكن أن يُعد مجرد تأخير إداري، بل يطرح علامات استفهام خطيرة حول مدى جدية المهمة ونزاهتها.
وبالتالي، فإن ما يجري اليوم لا يكشف فقط عن خلل في عمل المدقق الجنائي، بل يفضح قبل ذلك إخفاق لجنة الرقابة على المصارف، التي كان عليها منذ سنوات التدخل ومنع الانتهاكات وحماية أموال المودعين، بدلاً من الاكتفاء بالمشاهدة وترك الفوضى تتفاقم إلى أن تحوّلت إلى فضيحة مالية مكتملة الأوصاف.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|