بين بشير الجميّل وأحمد الشرع..
غلبتني ذكرى بشير الجميّل، الرئيس اللبنانيّ المُغتال صيف عام 1982، وأنا جالس في ضيافة الرئيس السوري أحمد الشرع. بين الرجلَيْن عقود طويلة وسياقات شديدة الاختلاف، لكنّ خيطاً خفيّاً يجمعهما.
كلاهما خرج من رحم البندقيّة ليجد نفسه أمام امتحان الدولة الممزّقة. ما إن اعتلى بشير سدّة الرئاسة حتّى خلع عباءة “القوّات اللبنانية” قبل أن يحكم. طرق أبواب القاهرة والرياض بحثاً عن شرعيّة تتجاوز ضيق الطائفة والسلاح. مثله قال الشرع بصراحة، إنّه ليس امتداداً للتنظيمات الجهاديّة ولا للإخوان المسلمين. يعلن أنّه طوى صفحة “هيئة تحرير الشام” بعد منعطفات طوى فيها حقبتَيْ جبهة النصرة والقاعدة وغيرهما. يقدّم نفسه رئيساً لكلّ السوريّين ولدولتهم، منفتحاً على دول الإقليم والعالم بلغة تصفير المشاكل.
جاء الجميّل من ميليشيا مسيحيّة أصغر من لبنان، وجاء أحمد الشرع من ميليشيا جهاديّة أكبر من سوريا. التقى الاثنان عند إدراك أنّ الميليشيا، أيّاً تكن قضيّتها، فهي سلطة عابرة، مقابل قدرة الدولة على تجاوز امتحان الزمن. أبكر الجميّل في “توحيد البندقيّة المسيحية” لتتسنّى له قيادة بيئته نحو دولة لاحت ملامحها في عقله في وقت مبكر من مشروعه. أمّا الشرع، فيسعى الآن إلى توحيد بنادق وميليشيات البيئة الجهاديّة المعقّدة التي أتى منها، خدمةً لمشروع الدولة المستجدّ في مسيرته.
رعاة النّشأة ليسوا وحدهم رعاة الاستمرار
في الحالتين استند الرجلان في مراحل الصعود إلى لاعبين خارجيّين: إسرائيل في حالة بشير، وتركيا وقطر في حالة الشرع. لكنّهما ما لبثا أن انتقلا إلى توسعة رقعة التحالفات مدركين أنّ رعاة النشأة ليسوا وحدهم رعاة الاستمرار.
لا تكفي المصلحة وحدها لتفسير هذه التحوّلات. ولا كلّ انتقال من الميليشيا إلى السلطة، جزئيّاً أو كلّيّاً، قاد إلى مثل هذه المراجعات أو التحوّلات التي شهدناها في حالتَي بشير والشرع. قُيّض في حقب مختلفة للميليشيا أن تحكم، من دون أن تذهب أبعد من تثبيت سلطة الفصيل نفسه. في حالتَي “حماس” في فلسطين بعد الفوز في الانتخابات والإمساك بالحكومة، وفي لبنان مع دخول “الحزب” إلى الحكومة بعد عام 2005 (دخل البرلمان عام 1992)، وهيمنته لسنوات طويلة على شروط تشكيلها وظروف عملها، اكتفى الفصيلان بأن يجعلا الدولة غطاءً لميليشياتهما لا أفقاً يتجاوزها. استتبعت الميليشيا مؤسّسات الدولة، وجعلتها وسيلة في خدمة التنظيم لا غاية أرحب تتّسع للآخرين ولو على حساب السلاح الخاصّ.
اغتيل بشير الجميّل قبل أن يختبر مشروعه. لم يحظَ بالوقت الكافي لإثبات أنّه بوسع قادة البندقيّة أن يصبحوا رجال دولة، وأنّ تغيير الخطاب والقناعات يمحو بالفعل الإرث الثقيل للميليشيا.
ظروف معقّدة وخطرة
ليست ظروف الشرع أقلّ تعقيداً وخطراً، فهو يواجه تحدّي ثلاث شرعيّات في مرحلة انتقاليّة حسّاسة: الشرعيّة الدستوريّة، الشرعيّة الإسلامية وشرعيّة الإنجاز.
1- لا تزال سلطته، على المستوى المؤسّساتيّ، قائمة على تعيين انتقاليّ لا على انتخابات حرّة، وهو ما يثير شكوكاً داخلية وخارجية بشأن نواياه حيال بناء دولة ديمقراطية تعدّديّة شاملة. “الإعلان الدستوري” لعام 2025 منحه صلاحيّات واسعة، سيزداد القلق بشأنها إن ظّلت الشرعيّة معلّقة على أمر واقع لا على تفويض شعبيّ تعدّدي. تضيف أحداث السويداء الدمويّة واشتباكات الساحل وتوتّر العلاقة السياسية بالكرد، فداحات جسام إلى هذا التحدّي العملاق أصلاً.
2- يغامر الشرع بإرثه الإسلاميّ الجهاديّ، ويقدّم نفسه رجلَ دولة وطنيّاً. بالابتعاد كثيراً عن شرعيّة “هيئة تحرير الشام”، يثير حاضنته الإسلامية المتشدّدة التي منحته الدعم الأوّليّ. يفتح باب المزايدات من آخرين. بدايات هذا الرفض يمكن رصدها في الاحتجاجات التي واجهها الشرع خلال تجربة حكمه لإدلب، وأشارت حينذاك إلى خطر التمرّد من الداخل ردّاً على ما يعتبره البعض خيانة للشرعيّة الجهادية التقليديّة.
3- تواجه “شرعيّة الإنجاز”، في الداخل السوريّ الأوسع، امتحانات قاسية، نتيجة عدم القدرة حتّى الآن على تقديم ما يكفي لإقناع الناس. أكثر من تسعين في المئة من السوريّين تحت خطّ الفقر، والتضخّم يلتهم الرواتب، والخدمات الأساسيّة تكاد تكون غائبة.
شبكة متناقضة من الرّهانات
فوق ذلك، يواجه الشرع شبكة متناقضة من الرهانات والأجندات الإقليمية. يحاول تعديل علاقاته بتركيا لتتّسع لعلاقة استراتيجيّة مع السعوديّة والخليج. يسعى إلى هضم التغوّل الإسرائيلي من دون التورّط في حرب غير مستعدّ لها. يدرك حاجته إلى الغطاء الأميركي لكن بمقادير لم ينجح حتّى الآن في ضبطها على نحو لا يستفزّ الصين وروسيا، العضوين الدائمين في مجلس الأمن والمفتاحين المهمّين لرفع العقوبات والتصنيفات الأمميّة عنه وعن بلده.
هل ينجح أحمد الشرع حيث توقّف بشير الجميّل؟ هل يستطيع أن يحوّل إرث الميليشيا إلى شرعيّة دولة؟
الأكيد أنّ التحوّل من قائد فصيل إلى رجل دولة ليس خطاباً جديداً أو تحالفات أوسع وحسب، بل امتحان قاسٍ يتطلّب إنجازات ملموسة، ومؤسّسات جامعة، وقدرة على النجاة من فِخاخ الداخل والخارج معاً. ويتطلّب وقتاً، حيث الوقت هو أندر المقدّرات.
تحوّل حقيقيّ أم تموضع تكتيكيّ؟
يسأل البعض إن كانت النقلة التي يمرّ بها الشرع تعبيراً عن تحوُّل عقائديّ حقيقي أم هي إعادة تموضع تكتيكيّة، فرضتها حسابات البقاء في مشهد ما بعد الحرب السوريّة؟ أيّاً تكن الإجابة الدقيقة، فإنّ هذا التغيير ليس بلا معنى، لأنّه يعكس نفاد رصيد الأيديولوجية الجهاديّة بما هي خيار سياسيّ، ويفتح الباب أمام واقعيّة جديدة عنوانها البراغماتيّة الوطنيّة.
كلّ خطوة يخطوها الشرع لتعريف نفسه رئيساً وطنيّاً، لا أميراً جهاديّاً، تُضعف سرديّة التنظيمات الجهادية السنّية والشيعيّة. وكلّما تحدّث عن المرافئ والممرّات الاقتصاديّة والربط بالأسواق، تقلّصت مساحة المنطق القائل إنّ الميليشيا هي الضامن الوحيد للبقاء والشرعيّة.
باختصار، أحمد الشرع هو أفضل فرصة متاحة لسوريا الآن للخروج من ركام الحرب، وفي الوقت نفسه، هو أكثر مظاهرها هشاشة. رجل يمشي على الحبل بين التعافي الصعب والانتكاس السريع، وبين الدولة الوطنيّة الممكنة، ونزوع متأصّل لديه إلى المركزيّة الصارمة، في ظلّ ضعف الأدلّة على تبنّيه لانفتاح حقيقيّ ومستدام على التعدّديّة.
نديم قطيش -اساس
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|