"ستارلينك" تعزز المنافسة وتحسّن خدمة الإنترنت؟
كان يا ما كان، في قديم الزمان، كان هناك قطاع اتصالات اعتُبر من أبرز مصادر دخل الدولة وأداة أساسية لربط اللبنانيين بالعالم، هذا البلد الذي كان من أولى الدول العربية التي أدخلت الإنترنت في منتصف التسعينات.
لكن اليوم، يقف القطاع على حافة الانهيار. بنية تحتيّة مترهّلة، أسعار مرتفعة، وخدمة متردّية لا تواكب أبسط المعايير العالمية، تجعل المواطن اللبناني عالقًا وسط احتكار السوق التي تديرها شركات مرتبطة مباشرة بالدولة، بينما تقتصر شركات أخرى على شراء السعات منها وتوزيعها على المشتركين.
فهل يشهد لبنان قريبًا خرقًا لهذه المعادلة عبر دخول "ستارلينك"، أم يبقى المواطن رهينة شبكة متداعية تترنّح عند كلّ أزمة كهرباء وكلّ قرار سياسي؟
منذ فترة، أثارت نية الملياردير الأميركي إيلون ماسك بإدخال خدمات الإنترنت الفضائي عبر شركته "ستارلينك" إلى لبنان، جدلًا واسعًا، وأعرب عن رغبته آنذاك خلال اتصال هاتفي مع الرئيس جوزاف عون، فأبدى الأخير استعدادًا لتقديم التسهيلات الممكنة ضمن الأطر القانونية.
قوبل هذا الطرح بترحيب من بعض الجهات الرسمية التي رأت فيه فرصة لإنقاذ قطاع الاتصالات المتعثّر، في مقابل امتعاض شركات الإنترنت الخاصة التي تخشى على حصّتها في السوق. أما المنظمات المعنية بالحقوق الرقمية، فأبدت قلقها من الجوانب القانونية المرتبطة بإدخال "ستارلينك"، ومن قدرة الدولة على ضمان احترام خصوصية المستخدمين وسيادتها الرقمية.
الجدير ذكره أنّ "ستارلينك" تقدّم خدمات الإنترنت الفضائي في نحو 130 دولة حول العالم، من بينها دول عربية مثل سلطنة عُمان والبحرين وقطر، وبحسب البيانات، في شهر آب 2025 بلغ عدد الأقمار الصناعية التابعة للشركة نحو 8,094، ما يجعل "ستارلينك" أكبر منظومة أقمار صناعية في العالم حتى الآن. وهي تهدف لرفع العدد إلى عشرات الآلاف خلال السنوات المقبلة، في إطار خطتها لتأمين تغطية شاملة للإنترنت على مستوى العالم.
إذًا، منطقيًّا العالم متّجه نحو ارتباط رقميّ وبغضّ النظر عن إيجابيات وسلبيّات المسألة، من الذي يريد لبنان خارج هذه المنظومة؟
في 12 آب الماضي، عقدت لجنة الإعلام والاتصالات النيابية برئاسة النائب ابراهيم الموسوي اجتماعًا مع وزير الاتصالات وفريق عمله، بحضور ممثلين عن الأجهزة الرقابية، وخلصت إلى أنّ مشروع ترخيص "ستارلينك" يتضمّن مخالفات قانونية ودستورية، أبرزها: تجاوز صلاحيات مجلس النواب في منح الامتيازات (المادة 89 من الدستور)، مخالفة قانون الشراء العام عبر تجاهل الأصول الإلزامية، إهمال مبدأ السيادة الرقمية المنصوص عليه في قانون المعاملات الإلكترونية، وتهميش الهيئة الناظمة للاتصالات. كما شدّدت اللجنة على غياب أيّ دراسة جدوى مالية أو تقنية أو قانونية، أو تقييم لتأثير المشروع على السوق المحلية والشركات اللبنانية المزوّدة للإنترنت. بناءً عليه، أوصت بعدم السير بالمشروع بصيغته الحالية، وإعداد دفتر شروط رسمي يمرّ عبر هيئة الشراء العام، لضمان الشفافية وحماية المصلحة الوطنية.
السؤال الذي يطرح نفسه، أين أصبح العمل بتوصيات اللجنة؟
مصادر من وزارة الاتصالات تكشف لـ "نداء الوطن" عن أن الوزارة أعدّت كلّ ما يلزم من النواحي المالية والتقنية والقانونية، وسيتمّ عرض ذلك على مجلس الوزراء والجهات المختصة قبل اتخاذ أيّ خطوة رسمية.
وحول ما إذا اجتمعت الوزارة مع الشركات المعارضة لدخول "ستارلينك"، تقول المصادر: "لقد عُقدت اجتماعات مع مزوّدي خدمات الإنترنت المحليين، وتمّ التطرق إلى تأثير دخول "ستارلينك" على السوق، ومستقبل الاستثمارات، وحقوق الشركات القائمة، لكن في الوقت نفسه، تدرس الوزارة خيار دخول "ستارلينك"، إلى جانب خيارات أخرى لشركات دولية مماثلة. وأيّ قرار سيتخذ سيكون منسجمًا مع القوانين اللبنانية المرعية والاتفاقيات الدولية، ضمن إطار قانوني شفاف يحمي المصلحة الوطنية".
وتضيف: "تضع الوزارة معايير واضحة تشمل شروط الترخيص، الرسوم، الضرائب، التزامات الجودة والتغطية، بما يضمن منافسة عادلة ويخدم مصلحة المواطن".
وعن كيفية حماية خصوصية المستخدمين وسيادة الدولة في حال دخول الإنترنت الفضائي، تقول المصادر إنّ "الوزارة تعمل على وضع ضوابط صارمة تلزم أي شركة أجنبية باحترام القوانين اللبنانية الخاصة بحماية البيانات".
بالمقابل، قدّمت سبع شركات لبنانية مزوّدة لخدمات الإنترنت (ISPs) اعتراضًا رسميًا على دخول خدمة "ستارلينك" إلى لبنان، ووجّهت العريضة إلى رئاسة الجمهورية، مجلس الوزراء، ولجنة الإعلام والاتصالات النيابية. وطلبت الشركات تأجيل إدخال "ستارلينك" إلى السوق اللبنانية إلى حين إجراء تقييم شامل للأثر الاقتصادي والتقني.
وأوضحت الشركات أن دخول "ستارلينك" قد يؤدّي إلى فقدان نحو 25 % من عملائها، خصوصًا في القطاعين التجاري والتعليمي، وهو ما سينعكس سلبًا على إيرادات الدولة. كما أعربت عن قلقها من غياب دراسة جدوى رسمية، ما يطرح تساؤلات حول الشفافية والمنافسة العادلة في القطاع.
ويمكن تفنيد الاعتراض بثلاثة محاور رئيسية: أوّلًا، الطريقة القانونية للحصول على الترخيص، التي يجب أن تتمّ حصريًا عبر الهيئة الناظمة لقطاع الاتصالات، والتي لم تتشكّل بعد. ثانيًا، مسألة السيادة الرقمية عند التعامل مع شركة إنترنت عبر الأقمار الصناعية. ثالثًا، مسألة منح "ستارلينك" شراكة حصرية من دون فتح المجال أمام شركات أخرى.
أبي نجم: لبنان مخروق أصلًا
في هذا الإطار، يرى المستشار التقني والخبير في أمن المعلومات رولان أبي نجم أنه "عندما يُقال إن 25 % من العملاء قد يفضّلون الانتقال إلى شركة أخرى، فهذا يعود لعدّة أسباب، أبرزها الحصول على خدمة أفضل بكلفة أقلّ. وهذا أمر طبيعي وإيجابي، لأن شركات الإنترنت اللبنانية تقدّم أسوأ خدمة بأعلى كلفة، ومن دون أي صيانة تُذكر. ومن هنا، فإن دخول شركات جديدة إلى السوق يُفترض أن يدفع الشركات المحلّية إلى تحسين خدماتها وتخفيض أسعارها. لذلك، لا يمكن اعتبار المنافسة تهديدًا للاقتصاد، بل على العكس، هي فرصة لتطوير القطاع، ولا بدّ من قدوم شركات عالمية أخرى إلى جانب "ستارلينك"، لأنه كلّما زادت المنافسة كان ذلك أفضل للمستخدمين".
في ما يخصّ الأمن السيبراني، يقول أبي نجم لـ "نداء الوطن": "الجميع يعرف، سواء الخبراء أو غيرهم، أن لبنان ساحة مباحة في مجال الإنترنت. شركة "أوجيرو"، وهي المزوّد الرئيسي، لم تخضع منذ العام 2019 لأي عملية صيانة أو دعم تقني حقيقي، ما يجعلها بطبيعة الحال مكشوفة على كلّ الاختراقات. وقد شاهدنا قبل فترة في الأخبار حادثة دخول موظف إلى شركة "تاتش" وسحب كلّ البيانات من دون أي رادع".
يضيف: "بالنسبة لـ "ستارلينك"، في معظم دول العالم هناك مفهوم يُعرف بـ "السيادة الرقمية"، أي أنّ الدولة تؤمّن استضافة البيانات داخل أراضيها عبر مراكز بيانات وطنية. لكن في لبنان، وللأسف، لا نملك مراكز بيانات مؤهّلة لهذا الدور، إذ نفتقد إلى أبسط المقوّمات مثل الكهرباء والإنترنت المستقرّ. وبناءً عليه، فإن تخزين بيانات العملاء اللبنانيين في دولة أخرى مثل قطر ليس خيارًا مثاليًا ولا يُعدّ "best case scenario"، لكنه يبقى خيارًا متاحًا أمام المستخدم. فمن لا يرى أنّ بياناته تحتوي على معطيات حسّاسة يمكنه الاشتراك بخدمة "ستارلينك"، بينما من يرفض ذلك يستطيع البقاء مع الشركات المحلية".
اقتصاديًا، يشير أبي نجم إلى أنّ تحسين خدمة الإنترنت في لبنان عبر دخول "ستارلينك" أو غيرها من الشركات العالمية، قد يشكّل عاملًا محفّزًا لعودة الاستثمارات الأجنبية. فالكثير من الشركات الكبرى، مثل "ديلويت" و "إرنست أند يونغ" وغيرها من المؤسّسات العالمية، كانت تنظر إلى لبنان كمركز إقليمي محتمَل بفضل طاقاته البشرية المتميّزة. غير أنّ ضعف البنية التحتية للاتصالات، ولا سيّما رداءة الإنترنت، دفع هذه الشركات إلى نقل أعمالها إلى دول أخرى. وبالتالي، إذا توفّرت خدمة إنترنت متطوّرة وموثوقة، يمكن أن يعاد إحياء فكرة لبنان كمركز أعمال إقليمي، بما يفتح المجال أمام فرص عمل جديدة ويمنح الشباب اللبناني دافعًا للبقاء في وطنهم بدلًا من الهجرة المستمرًة.
على صعيد أوسع، يلفت إلى أنه "برز في الفترة الأخيرة برنامج تجسّس جديد أكثر خطورة من "بيغاسوس"، يُدعى Graphite، طوّرته شركة Paragon Solutions الإسرائيلية واستحوذت عليه لاحقًا شركة أميركية. هذا البرنامج يُعدّ من أقوى أدوات المراقبة في العالم، إذ يعمل عبر هجمات "صفر نقرة" على تطبيق iMessage في أجهزة iOS، أو عبر WhatsApp في أجهزة Android ليستولي بصمت على الهاتف. وقد تمّ التعاقد عليه بملايين الدولارات من قبل وكالة الهجرة والجمارك الأميركية".
يردف: "يواجه لبنان فجوة كبيرة في خدمات الإنترنت، إذ لا يزال الوصول إلى الشبكة يتمّ عبر خطوط الهاتف الأرضية، ما يحرم مناطق كثيرة من الخدمة أو من التغطية الكاملة. هنا، يمكن أن تشكّل "ستارلينك" حلًا سريعًا، إذ لا تحتاج إلى بنى تحتية أو تمديدات أرضية، بل يكفي تركيب جهاز استقبال صغير أو استخدام الهاتف لتأمين الخدمة. وهذا ما يجعلها بديلًا عمليًا وسريعًا بدل انتظار سنوات طويلة لإصلاح البنية التحتية الوطنية".
الجدير بالذكر أن نقاشات مشابهة تشهدها دول أخرى. ففي بريطانيا، طلبت الحكومة من شركة "آبل" إلغاء التشفير الكامل عن أجهزتها لتتمكّن من الاطلاع على بيانات الموظفين. وفي فرنسا، في حزيران 2023، استعانت الشرطة بصلاحيات خاصة للتجسّس على الهواتف والأجهزة الذكية بعد الاشتباه في أحد الأشخاص. حتى تطبيق "تلغرام" الذي كان يُروّج له كأكثر المنصّات أمانًا، واجه اختبارًا صارخًا عندما طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من مالكه التعاون، فتمّ توقيفه أربعة أيام قبل أن يسلّم كامل البيانات المطلوبة.
من هذا المنطلق، يرى أبي نجم أنّه في حال قرّرت الدولة اللبنانية التعامل مع "ستارلينك"، فهي قادرة على وضع شروط واضحة وصارمة ضمن أي اتفاقية أو ترخيص. من بين هذه الشروط مثلًا، إلزام الشركة بإتاحة الاطلاع على بيانات العملاء داخل لبنان، أو على الأقل ضمان نسخة منها تُحفظ في خوادم محلية خاضعة للرقابة.
سيدة نعمة - "نداء الوطن"
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|