لُبنان المُختَرق ومحنةُ اللواء عثمان..
يقول سفيرٌ عربيٌ واسعُ الثقافة في لُبنان:" لا يوجد بلدٌ في العالم يجمع على أرضه كلَّ هذه المؤسسات الأمميّة كما هي حالُ لُبنان". ويستغرب مسؤولٌ دوليٌّ هشاشةَ إدارةِ الدولة اللُبنانيّة امام ملفّاتِ حسّاسةٍ وبينها مثلاً ملفُ النازحين واللاجئين، وداتا معلومات الناس بذريعة معرفة أسماء وأحوال الفقراء، وذلك فيما منظمة الأغذية العالمية وحدها تُقدّم حاليا مساعدات لنحو مليوني سوري ولُبناني بينهم 700 ألف لُبناني. (كان عدد الفقراء اللبنانيين الذين يتلقون مساعدات قبل العام 2019 ينحصر بخمسة ألاف عائلة).
أمّا المنظمات غير الحكومية العاملة على الأراضي اللبنانية والتي يتلقّى بعضُها مساعداتٍ لافتة بحجمها ومشبوهة بأدوارها، فهي قد تكون قاربت العشرة ألاف وفق مسؤول لُبناني سابق كان معنيًّا بهذا الملف.
الدولة اللبنانية نامت كأهل الكهف
الدولة اللُبنانية التي نامت طويلاً كأهل الكهف عن غواربها، استيقظت فجأة على واحدة من مصائبها المتكسّرة نصالها على نصال الجسد اللبناني، فسلّم وزيرُ الخارجية اللُبناني عبداللّه بوحبيب المؤسسات الدولية 15 بندًا تحتاج إلى إجابات. وهذا ما كان ينبغي القيامُ به منذ 11 عامًا.
مشكورةٌ لا شكّ المنظّمات الدوليّة التي تُبلسمُ جراح المرضى وتسدّ جوعَ الفقراء (بعضهم يعيش في مقابر الشمال الحزين والمُهمل). ومشكورةٌ كذلك المنظّمات غيرُ الحكوميّة التي تدبُّ كالنّمل في جسد الوطن لتسدّ فجوات الدولة وما أكثرها وأخطرها! لكن السؤال المُقلق هو التالي: هل تعرفُ الدولةُ غيرُ المصونِ ولا المُصانة فعلاً، التفريقَ بين المنظمات التي تبحث عن داتا معلومات للتجسّس والتخريب وتأمين مصالح الخارج بلحم أبناء الوطن، وتلك الشريفة والانسانيّة؟
الأرجح لا، وفقَ ما نفهم من مسؤولين أمنيّين سابقين وحاليّين، فالرياحُ المشبوهة تخترقُ الوطنَ من كلّ حَدَبٍ وصوب، ناهيك عن خلايا إرهابيّة كامنة، وعمليات سطوٍ وتشليحٍ وقتلٍ ونهب، وناهيك أيضًا عن فلتانٍ مُنظّم في مناطقَ واسعة من لُبنان، قتلت كلّ حضورٍ للدولة وراح أهلُها يشيّدون المباني العشوائية كيفما اتفق ويروّجون المخدرات والممنوعات في وضح النهار أو غياهب الليل.
زادَ اعتكافُ القضاء الطينَ بِلّة، وهو بالأصل مُعتَكَف قسرًا بقبضةِ السياسيّين الثقيلة والمجرمة بحقّ الأمن والعدالة، فمَن يحفظُ الأمنَ الهشَّ إذاً؟ ومَن يستطيع صدّ الرياح لو كانت الصفقات السياسية لانتخاب رئيس وما يليه، تحتاجُ خضّاتٍ أمنيّةً وهزّاتٍ اجتماعيّة؟
لا شكّ في أنّ الجيشَ اللُبنانيَّ لعبَ وما زال، دورَ الضابط لأي انحرافٍ كبير، وهو ينجح في ذلك لكونه يتمتع أولاً بثقة الناس وثانيًا بغطاء سياسي وثالثا بصلابةِ من يقوده ورابعًا بدعمٍ أميركيّ مستدام. فماذا لو احتاجت الصفقات رفعَ الغطاء أو بالأحرى الأغطية السياسيّة؟ ثم هل أن مسؤولية الجيش فعلاً هي الغرق في زواريب لُبنان، أم الزودُ عن الحدود وضبطُها وحمايةُ الوطن؟
ما هو دور قوى الأمن الداخلي؟
قوى الأمن الداخلي مستثناة من كلّ دعم، فلا الدولُ الغربيّة التي تدّعي الحنان على لُبنان تُساعد هذه المؤسسة العريقة والضروريّة، ولا الأشقاء العرب المهجوسون ب" الميليشيات المُسلّحة" يلتفتون إلى قوى الأمن رغمَ افتراض أن مديرها العام اللواء عماد عُثمان الصامت الأكبر ليسَ من النوع الذي يُقلقُ الخليجَ بل بالعكس تمامًا، هو مُقلقٌ أكثر للمحور الآخر.
حين اعتكفَ القضاء وتضاعفت أعمال السطو والجنايات والجنح، استند اللواء عًثمان إلى القانون رقم 17 أو إلى ما كان الرئيس الراحل فؤاد شهاب يُسمّيه " الكتاب" ويدعو الى العودة إليه عند كلّ أزمةٍ أو طارئ، أي الدستور، فوجّه "مذكّرة خدمة" داخلية لرجال الأمن (الفقراء كما نظرائهم من المدنييّن وغير القادرين على الاستشفاء لو ألمّت بهم نائبةٌ أو لو اعتدى عليهم أزعر".
كان هاجسُه أن يقبض على السارقين والأشرار والمهرّبين والجناة والزعران العابثين في الأرض فساداً، مُتحمّلاً لوحده، في غياب القضاء، مسؤوليةً ثقيلةَ الوطأة خطيرةَ التنفيذ. استند في مذكّرته إلى المواد: 194و40 و41 و46. وهي مواد تقول صراحة إنَّه "يحقّ لرجال قوى الأمن الداخليّ توقيفُ الأشخاص تلقائيًا، في حالةِ الجناية المشهودةِ التي تكون عقوبتُها الحبسَ، على أن يُعلِموا في الحال المرجعَ القضائيَّ المُختصَّ ويتقيدوا بتعليماته"... لكنْ أينَ هو المرجعُ القضائي، إذا كان مُعتكِفاً؟ وهل يُترك السارق والقاتل والأزعر يسرح ويمرح بانتظارِ فرجٍ قضائي؟
ألم تنص المادة 40 حرفيًّا على أنْ: "تقوم الضابطة العدلية في الجريمة المشهودة بالإجراءات التي يقوم بها النائب العام عندما يتعذّر عليه مُباشرتها بنفسه، وعلى الضابط العدليّ أن يُراعي في إجراءاته الأصولَ التي حدّدها القانون العام عند تولّيه التحقيق في الجريمة المشهودة؟
اللواء عماد عثمان الصامت الأكبر
لنذهب أبعدَ من ذلك، الا توجد أجهزةٌ أمنيةٌ أخرى اتَّخذت قراراتٍ أبعدَ بكثير ممَّا اتخذه اللواء عُثمان أكان في الجوانب الإداريّة أو الأمنيّة ولم تُسأل أو تُساءَل لأن غطاءَها السياسيّ كبير.
هبّ كثيرون للاعتراض على مذكرة اللواء، ولعلّ بعَضَ مسؤولي الدولة والقضاء تبنّوا الاعتراضَ الشعبويَ من دون قراءة المذكّرة التي كرّستها هيئة التشريع والاستشارات رغم بعض الملاحظات، أما النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي غسان عويدات فهو أوضح بأن: "على الضابطة العدليّة في الجرائم المشهودة وغير المشهودة التقيّدَ بإشارة النيابة العامّة المختصّة، وفي حال تعذّر الاتصال بالنائب العام الاستئنافيّ أو من ينوب عنه وفي الظروف التي تمرُّ بها البلاد، يقتضى الاتصالُ بالنيابة العامّة التمييزيّة للأخذ بإشارتها" لكن القاضي عويدات ذهب في الواقع أبعد مما ذهبت اليه مذكرة اللواء عثمان أولاً بإضافة عبارة " غير المشهودة" أيضا على المشهودة ثمّ بقوله إن: "التوقيف وجمع الأدلة وغيرها من الإجراءات في الجرم المشهود واجب وكذلك الاتصال والأخذ بإشارة النيابة العامة واجب أيضًا". هُنا كلمة واجب أكثر من مهمّة.
ونعود الى السؤال المفصليّ في هذه العُجالة : هل أنَّ هدفَ الهجمة هو الحرصُ فعلاً على الأمن الداخليّ، أم استهدافُ اللواء عثمان بشخصه ،إمّا لمنعِ التجديدِ له لاحقًا أو لأنَّ صمتَه وعنادَه وعدمَ ردّه على هواتف السياسييّن يدفع أكثرَ من طرفٍ إلى محاولة إقصائه، خصوصًا بعدما سرت مقولةُ رفع الغطاء السياسيّ عنه منذ أُجبِرَ الرئيس سعد الحريري على الانكفاء وشبه النفي القسريّ .
اللواء صامتٌ كعادته، رغم الحاجة للكلام والتوضيح، وغالبًا ما يقول لرجال الأمن: "أخشى أنْ يكون الاستهداف هو للمؤسّسة التي أنتمي إليها وليس فقط لشخصي".
لعلّه يُذكّرنا بقولة فؤاد شهاب الشهيرة حين بدأت عملياتُ ملاحقة ضبّاط المكتب الثانيّ:" يحزّ في نفسي أنّ ما يحصل ليس محاكمة أشخاص، بل محاكمة عهد ... ولهذا كله سلبيات خطيرة على مستقبل الجيش، وأنا أرى لُبنانَ مُقبِلاً على أيامٍ سودٍ، أرى بُرَك دمٍ ". لم تتأخر تحذيراتُه في أن تُصبحً واقعًا دمويًّا بعد فترة قصيرة على انتهاء عهده.
سامي كليب - أساس
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|