الصحافة

من البيجر إلى الحرب المفتوحة: عام واجه فيه "حزب الله" أصعب امتحان!

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

لم يكن انفجار أجهزة "البيجر" في مثل هذه الأيام قبل عام مجرّد عملية نوعية غير مسبوقة في تاريخ الصراعات، بل لحظة مفصلية أعادت صياغة الواقع اللبناني برمّته، مع كلّ ما انطوت عليه من غياب لأخلاق الحرب، تحوّلت معها جريمة بهذه الدرجة من "الوحشيّة" غير المسبوقة في قاموس العديد من الدول الغربية إلى محطّ "إعجاب" بالقدرات الاستخباراتية ال​إسرائيل​ية التي فاقت كلّ التوقعات، بل تفوّقت من خلالها إسرائيل على نفسها.

ففي ذلك اليوم، وفي غضون ثوانٍ فقط، سقط مئات الشهداء والجرحى من كوادر "​حزب الله​"، في واحدة من أعنف الضربات التي تعرّض لها التنظيم منذ تأسيسه، حتى إنه لم يكن قادرًا على استيعابها في لحظاتها الأولى، بعدما دوّت انفجارات متزامنة في مناطق لبنانية عدّة، حتى إنّها وصلت إلى خارج الحدود، لتشكّل "الصدمة" عنوان الموقف، الذي تجلّى أساسًا في الإطلالة الأخيرة للأمين العام السابق السيد حسن نصر الله.

لكن ما تلا تلك اللحظة كان أعظم، وهو ما كان بديهيًا، إذ إنّ حادثة "البيجر" على ضخامتها وحساسيّتها، لم تكون سوى "الشرارة" التي نقلت الحرب من مرحلة "الإسناد" إلى "التصفية"، وفق قواعد الاشتباك التي حدّدتها تل أبيب. هكذا، كانت الأيام التالية حافلة بالاغتيالات القاسية التي شملت كبار قيادات الحزب، ووصلت إلى السيد نصر الله نفسه، في أصعب امتحان على الحزب وجمهوره، مهّد لحرب مفتوحة لم تنتهِ فصولاً بعد.

اليوم، بعد عام كامل، لا يقتصر النقاش على وصف المأساة أو استعادة صورها، بل على موقع الحزب في المشهد الإقليمي والمحلي بعد هذه الهزّة العنيفة، في ظلّ ضغوط داخلية وخارجية يتعرّض لها، تحت عنوان "حصرية السلاح"، ومحاولات لتصويره وكأنّه في "أضعف موقف" له منذ نشأته وتأسيسه. فهل أعاد الحزب إنتاج قوته ولو بالحدّ الأدنى، أم أنه دخل طور التراجع التدريجي رغم حفاظه على حضور وازن، في المشهد السياسي على الأقلّ؟

في المبدأ، شكّلت حادثة البيجر استهدافًا مباشرًا للبنية التنظيمية لـ"حزب الله" لم يكن لا على البال ولا الخاطر، بعدما فتح "جبهة الإسناد" للفلسطينيين في قطاع غزة، معتقدًا أنّها ستبقى محصورة بفضل قوة الردع التي كان يمتلكها. لذلك، لم تكن الخسارة في الأرواح وحدها كارثية، بل الضربة الرمزية التي أصابت صورته الأمنية الصلبة، ولا سيما أنّ الحزب لطالما اعتُبِر حصينًا أمام الاختراقات، محاطًا بجهاز أمني متماسك يسبق خصومه في القدرة على التوقّي.

فجأة، تهاوت هذه الصورة بشكل أو بآخر. فمع أنّ هذه الضربة لم تُترجم هزيمة آنية، لكنها كشفت أن الحزب ليس بمنأى عن "حرب أدمغة" تقودها إسرائيل مدعومة بتكنولوجيا متفوّقة، وهو الذي كان يعتقد أنّه بقوة الردع يمنعها من أيّ تفكير بالهجوم عليه. ولا شكّ أنّ هذه القناعة عزّزت فرضية أن الحزب دخل طورًا جديدًا من المواجهة، حيث لم يعد الصراع فقط على الأرض أو الحدود، بل في قلب منظومته الأمنية والتنظيمية.

وإلى جانب ذلك، حملت الصدمة رسالة إلى الداخل اللبناني: أن الحزب الذي قدّم نفسه لعقود كـ"حامٍ للبنان" يمكن أن يكون بدوره الحلقة الأضعف التي تجرّ البلاد إلى مواجهة شاملة، تمام كما حصل بعدما كان المبادِر إلى "حرب الإسناد" التي سرعان ما انقلبت عليه، من حيث لم يكن يحتسب أو يتصوّر، وهو ما غذّى خطاب خصومه الذين وجدوا في البيجر دليلًا على ضرورة إعادة النظر بدوره وسلاحه.

في النتيجة، لم تمضِ أيام على حادثة البيجر حتى دخل لبنان عمليًا في حرب مفتوحة مع إسرائيل. ردّ الحزب في الميدان بدا محاولة لإثبات أنّ الضربة لم تُنهِ قدرته على الردع، لكنّ الحزب كان غير قادر على استيعاب ما حصل، خصوصًا بعد الضربة "الأقسى" التي تعرّض لها حين تمّ اغتيال أمينه العام وزعيمه الاستثنائي والتاريخي السيد حسن نصر الله، الرجل الذي لا يزال كثيرون حتى اليوم لا يصدّقون أنّه لم يعد بينهم.

بهذا المعنى، تجاوزت الحرب التي انطلقت شرارتها مع البيجر إطار "الاشتباكات المحدودة" التي اعتادها الجنوب اللبناني بين الفينة والأخرى، وخصوصًا في مرحلة الإسناد، إذ تحوّلت إلى صراع متصاعد اتخذ طابعًا إقليميًا، وفتح الباب أمام إسرائيل لتبرير هجمات متكررة بذريعة مواجهة "الخطر الوجودي" للحزب، فيما كان الأخير يحاول إثبات وجوده من خلال الاستمرار في إطلاق الصواريخ، والعمليات النوعية، وإن بدت المعركة غير متكافئة ولا متوازنة.

وبعد عام على الحادثة، يبدو الحزب سياسيًا وعسكريًا في وضعٍ لا يُحسَد عليه، فقد جاء اغتيال السيد حسن نصر الله ليضاعف وقع الصدمة. للمرة الأولى منذ تأسيسه، وجد الحزب نفسه بلا قائد تاريخي، في لحظة حرب مفتوحة وصدمات متلاحقة، حتى إنّ انتقال القيادة إلى الشيخ نعيم قاسم، الذي لم يكن مرشحًا أساسًا للمنصب، الذي كان السيد هاشم صفي الدين مجهّزًا له في أسوأ الأحوال، شكّل محطة مفصلية: اختبار للقدرة على الاستمرارية، وتأكيد أن الحزب مؤسسة تتجاوز الأفراد مهما علت مكانتهم.

هذا الانتقال لم يكن سهلًا. فاغتيال "الجيل المؤسس" الواحد تلو الآخر أعطى الانطباع بأن إسرائيل تستهدف "الرأس" لإضعاف الجسد. غير أنّ الحزب لجأ إلى خطاب تعبوي مكثّف لتثبيت تماسكه. هكذا، صُوِّرت الحرب كجزء من "مؤامرة دولية كبرى" تستهدف المقاومة، وحُوِّلت المظلومية إلى رافعة تجديد الولاء. وفي المحصّلة، لم يشهد الحزب انشقاقات أو تصدّعات بارزة. لكنه، في المقابل، يعيش حالة إعادة بناء داخلية لم تنتهِ بعد.

ولعلّ "حصر السلاح بيد الدولة" الذي بات يشكّل عنوان سياسة "العهد" في مرحلة ما بعد الحرب الإسرائيلية، أو بالأحرى ما بعد اتفاق وقف إطلاق النار، ليزيد من حجم المعضلة التي يعيشها الحزب: من جهة، لا يستطيع التراجع عن دوره العسكري من دون خسارة هويته وشرعيته. ومن جهة أخرى، استمرار الحرب واستنزاف الداخل يضعانه في مواجهة شعبية متزايدة، حتى داخل بيئته التي ترزح تحت ضغط اقتصادي واجتماعي خانق.

هكذا، وبعد مرور عام، يتبدّى أن الحزب لم يُكسر رغم الضربة القاسية. قدرته على امتصاص الصدمات، والاستمرار في المواجهة، تشير إلى صلابة تنظيمية واضحة. لكنه بلا شك لم يعد الحزب ذاته الذي كان قبل أيلول 2024. فالبيجر مثّل لحظة انكشاف لا تُمحى. صحيح أنّه تجاوزها عسكريًا عبر الاستمرار في إطلاق الصواريخ وعمليات الردع، لكن صورة التنظيم الذي لا يُخترق تلاشت، وهو ما يضع الحزب أمام مسار طويل من إعادة البناء وإعادة التوازن.

بالنسبة إلى "حزب الله"، كانت حادثة "البيجر" الضربة الأعنف في تاريخه، لكنها لم تُنهِ وجوده ولا قدرته على الفعل. ما بعد البيجر ليس كما قبله: التنظيم ما زال حاضرًا بقوة، لكنّه يعيش في واقع أصعب، داخليًا وخارجيًا، ويواجه اختبارًا وجوديًا مستمرًا. فهل يتجاوزه كما تجاوز غيره في السابق، أم أن الظروف اختلفت، خصوصًا بعد اغتيال السيد نصر الله، الذي شكّل برأي الكثيرين، انتقالاً من مرحلة إلى أخرى؟!.

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا