بانتظار حكمت هجري الموارنة
يحمل سعي دروز سوريا لفكّ ارتباطهم بدمشق مخاطر جمّة عليهم. الخطّان الإقليميّان التركي والعربي ضدّهم. السياسة الأميركيّة ليست معهم. والداخل السوري السني مستنفر ضدّ "التقسيم والفدراليّة". لذلك يحمل مشروع حكمت الهجري بطيّاته مغامرة كبيرة. ومع ذلك، يكفي قراءة نصّ الإعلان الدستوري السوري الذي وقّعه أحمد الشرع بدمشق في آذار الماضي ليعلم واحدنا أن لا خيار للهجري سوى القيام بما يقوم به. ذلك أنّ الإعلان الدستوري جعل من الإسلام دين رئيس الدولة، كما جعل من الفقه الإسلامي المصدر الرئيسي للتشريع. أمّا وأنّ الإسلام التقليدي (دع عنك الإسلاميّين) لا يعتبر الدروز من المسلمين، فما سبق يضمن بالدستور بقاء دروز سوريا على هامش الدولة والمجتمع لو بقي مصيرهم معلّقًا بمصيرها. استطرادًا، إن حملت محاولة الهجري فكّ الارتباط بالوعي السنّي الأكثري مجازفة، فالاستسلام لمن يحكم على فئة من الناس بالعيش الذليل كجماعة من درجة أدنى لمجرّد انتمائها الديني، انتحار.
تاليًا، لا خيار جديًّا لدروز سوريا غير ما يحاول حكمت الهجري القيام به. أتابع ما يقول منذ فترة، وأراه واضحًا وشجاعًا. عام 1982، خلّص الجيش الإسرائيلي لبنان من ورم منظّمة التحرير، ولكنّ أحدًا عندنا لم يشكره، مع أنّ سجلّ ياسر عرفات الأسود بحقّ بلادنا لا يفوقه بشاعة سوى سجلّ حافظ الأسد. بالمقابل، شكر حكمت الهجري إسرائيل صراحة لأنّها حمت طائفته. ومقابل مئة عام من اللغة المسيحيّة الخشبيّة بلبنان، يجهر حكمت الهجري بأنّه لا يثق بنوايا الحكم الإسلامي بدمشق تجاه طائفته، وبأنّ ضمانة مستقبلها إقامة إقليم منفصل. بهذا يصيب الهجري مرّتين: أوّلًا، لأنّه يرفض إعطاء الثقة لمن لا يستحقّها. وثانيًا، لأنّه يفهم أنّ سياسة التقيّة وتدوير الزوايا لا يمكن لها أن تستمرّ إلى الأبد. يأتي يوم لا بدّ فيه للشعوب الحيّة أن تواجه إذا أرادت أن تبقى. وزمن المواجهة بالنسبة لدروز سوريا حان.
والحال أنّه حان أيضًا بالنسبة لمسيحيّي لبنان. ليس بالضرورة على شاكلة حرب، وقد سئموا منها، بل على شاكلة الصراحة المطلوبة مع الذات أوّلًا، ومع الآخرين بعد ذلك. وتقتضي الصراحة من المسيحيّين أن يفصحوا عمّا يردّدونه بمجالسهم الخاصّة لجهة أنّ تسليم رقبة مجتمعهم لأحباب المحاور الإقليميّة بلبنان يعني عمليًّا تسليمها للمحاور نفسها، وهذا ما يرفضونه. صحيح أنّ هذه المحاور ليست على القدر ذاته من السوء، وأنّ أحدًا ليس ألعن، ماضيًا أو حاضرًا، من ملالي إيران. ولكنّ هذه المحاور كلّها بنهاية المطاف غريبة عن مجتمعهم، وهم لا يعترفون تاليًا بشرعيّة تدخّلها الوقح والدائم بأمور بلادهم. وإن كان لهذه المحاور من يرتاح لها بلبنان، فهناك بلبنان أيضًا من لا يرتاح لها. الحلّ، تاليًا، بأن يحكم المسيحيّون أنفسهم بأنفسهم، من ضمن مساحة جغرافيّة واضحة المعالم تكون لهم وحدهم، يتحكّمون فيها بسياستهم الخارجيّة التي يريدونها قائمة على الحياد التامّ تجاه محيط لا يثقون بنواياه، ولا بقيمه، ولا بهويّته العميقة، ولا يعنيهم منه سوى العلاقات المركنتيليّة، علمًا أنّهم مستعدّون للتخلّي عنها إن كان ثمنها الاستسلام السياسي له. هذا الحلّ الذي يريده جلّ المسيحيّين لأنفسهم، ولسواهم من الشعوب اللبنانيّة المجاورة، كلّ بحيّزه الجغرافي.
ومعلوم أنّ العقد الأصلي بين شعوب لبنان كان يفترض أن يقوم على قاعدة "لا شرق، ولا غرب"، وأنّ هذا العقد تمّ خرقه بدل المرّة ألفًا، ودائمًا من قبل أحباب "الشرق". تغوُّل الشيعة المدعومين من إيران بالعقود الأخيرة ليس سوى حلقة بسلسلة استقواء بالخارج بدأها سواهم قبل ذلك بكثير، وقد سئم الشعب المسيحي منها. وإن كان هذا الشعب لا يريد المحاولة مجدّدًا مع جيرانه، فليس لأنّه متطرّف و "انعزالي"، بل لأنّه فقد الآلاف من خيرة شبابه بمعارك لا يشعر أنّه فعل قبل الحرب ما يبرّر شنّها عليه، كما فقد مئات الآلاف من مهاجرين ابتلعتهم المغتربات خلال الحرب وبعدها، يستكثر عليهم الحقد الشيعي حاليًّا عبر نبيه برّي مجرّد حقّ التصويت.
لذلك، تحتاج الشعوب اللبنانيّة لتتصارح. والحال أنّها كانت تصارحت فعلًا لو أنّ بين المسيحيّين حكمت الهجري الخاصّ بهم، يقطع نهائيًّا مع خطاب لبنانوي لم يعد جلّ الشعب المسيحي يطيقه. ولكنّ حكمت الهجري المسيحي مفقود. ولأنّه كذلك، يبقى خطاب نخب المسيحيّين الحاكمة، بفرعيها الكنسي والسياسي، أسطوانة مشروخة تجترّ ذاتها ليس أكثر. ويبقى المستقبل غامضًا ولا يطمئن، ولو قطع الحاضر الرتيب انفراجات سرعان ما يبدو أنّها وهميّة.
هشام بو ناصيف -نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|