الصحافة

النفايات قنبلة موقوتة بيئيّاً وصحيّاً: معضلة بنيوية تعكس غياب التخطيط وضعف الإدارة

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

يشكل ملف النفايات في لبنان أحدى أبرز التحديات البيئية والصحية المزمنة، التي لم تحسم منذ سنوات، إذ تحول من أزمة ظرفية إلى معضلة بنيوية، تعكس غياب التخطيط المستدام وضعف الإدارة العامة. فعلى الرغم من المحاولات المتكررة والوعود الحكومية بإيجاد حلول نهائية، لا يزال البلد يفتقر إلى نظام متكامل وفعال لإدارة النفايات، ما يجعل الأزمة تتكرر بوتيرة دورية، وتنعكس سلبا على البيئة والصحة العامة.

بلغت الأزمة ذروتها عام 2015  حين أُغلق مطمر الناعمة، أحد أكبر المطامر في لبنان، ما أدى إلى تراكم جبال من النفايات في الشوارع وبين الأحياء السكنية، وأثار احتجاجات واسعة في مختلف المناطق. ومنذ ذلك الحين، اكتفت السلطات بمعالجات ترقيعية، تقوم على فتح مطامر جديدة أو توسيع القائمة منها، بدل تبني استراتيجية وطنية شاملة ، ترتكز على مبادئ الفرز من المصدر، والتخفيف من إنتاج النفايات، وتطوير معامل التدوير والمعالجة.

وينتج لبنان بحسب ارقام البنك الدولي أكثر من 2 مليون طن من النفايات سنويا، يتم طمر نحو 80% منها بشكل عشوائي في مكبات غير مطابقة للمعايير البيئية، ما يلوث الهواء والتربة والمياه الجوفية. فالنفايات البلاستيكية وحدها، التي تستغرق مئات السنين لتتحلل، تساهم بشكل مباشر في تلويث البحر الأبيض المتوسط، الذي يعتمد عليه لبنان سياحيا واقتصاديا.

خطر بيئي وصحي

ومؤخرا، أعاد قرار الحكومة توسيع مطمر الجديدة وفتح الخلية الثامنة فيه، لاستقبال نفايات المتن وكسروان وجزء من بيروت، إشعال الجدل مجددا، إذ أثار هذا القرار مخاوف واسعة لدى الأهالي والخبراء البيئيين، من تفاقم التلوث الهوائي والمائي وتزايد المخاطر الصحية، في ظل انعدام الثقة بآليات الرقابة والإدارة.

وتكتسب هذه المخاوف وجاهتها في ضوء تحذيرات الخبراء البيئيين، الذين يرون أن فتح المطامر الجديدة قد يبدو حلاً سريعاً لأزمة النفايات، لكنه في الواقع خيار غير مستدام لما يخلفه من آثار بيئية وصحية خطيرة، إذ تؤدي تراكمات النفايات إلى انبعاث غازات سامة مثل الميثان تلوث الهواء وتفاقم التغير المناخي، كما تتسرب المواد السامة من المطامر إلى المياه الجوفية، مهددة سلامة الموارد المائية وصحة السكان، فضلاً عن تدمير التنوع البيئي وتقليص المساحات الخضراء وانتشار الروائح الكريهة التي تسيء إلى نوعية الحياة في المناطق المجاورة.

وتشكل المطامر الساحلية، مثل مطمر الجديدة وبرج حمود، تهديدا بيئيا وصحيا متصاعدا، إذ أن موقعها القريب من البحر يجعلها مصدرا مباشرا لتلوث المياه الساحلية والتربة المحيطة، بفعل تسرب العصارة السامة الناتجة عن تحلل النفايات. هذه العصارة الغنية بالمواد الكيميائية والمعادن الثقيلة، تتسرب تدريجيا إلى البحر، ما يؤدي إلى تلوث الثروة السمكية والمياه الجوفية، ويهدد الأمن الغذائي والصحة العامة على حد سواء.

مكبّات ومطامر غير صحيّة وعشوائيّة

ويحذر الخبراء من أن تراكم النفايات في هذه المطامر، من دون معالجة علمية أو عزل مناسب، يشكل قنبلة بيئية موقوتة، فمع ارتفاع درجات الحرارة أو اشتعال الحرائق داخل المكبات، تنبعث غازات سامة مثل الميثان والديوكسين، المعروفة بتأثيرها المسرطن والمسبب لأمراض تنفسية وجلدية خطيرة، خصوصا لدى الأطفال وكبار السن وسكان المناطق القريبة من المطامر.

أما الأثر الصحي غير المباشر، فيكمن في انتشار الحشرات والقوارض، وتلوث الهواء والمياه، ما يزيد من احتمالات تفشي الأمراض المعدية، ويضع عبئا إضافيا على القطاع الصحي المترنح أصلا.

ويؤكد خبراء البيئة أن اعتماد لبنان على المطامر البحرية، يتعارض مع أبسط مبادئ الإدارة المستدامة للنفايات، إذ تستخدم هذه المواقع كحلول مؤقتة لتكديس المشكلة لا لمعالجتها، كما أن غياب المراقبة المستمرة وشفافية إدارة هذه المنشآت، يعمّق أزمة الثقة بين المواطنين والسلطات، ويقوض أي توجه نحو حلول بيئية سليمة.

يشار إلى أنه وفقا لوزارة البيئة، هناك ثمانية مطامر صحية في لبنان، إضافة إلى عدد كبير من المكبات والمطامر غير الصحية والعشوائية المنتشرة في الكثير من المناطق، حيث تقدر إحدى المصادر وجود 940 مكباً عشوائياً تقريباً في كل لبنان.

الحلول المستدامة

في مقابل خيار توسيع المطامر، الذي يثير جدلاً واسعاً ومخاوف بيئية وصحية متزايدة، يرى خبير بيئي فضل عدم الكشف عن اسمه أن "الحلول المستدامة تكمن في تبني سياسات متكاملة لإدارة النفايات، تقوم على الحد من إنتاجها ومعالجتها بطرق بيئية آمنة"، مضيفاً "من بين هذه الحلول تطوير معامل الفرز التي تعنى بفصل النفايات، إلى مواد قابلة للتدوير مثل الورق والبلاستيك والزجاج والمعادن، وأخرى تعالج بطرق مختلفة كالسماد العضوي أو الحرق النظيف، ما يساهم في تقليل حجم النفايات المرسلة إلى المطامر، وإعادة إدخال المواد القابلة للاستخدام في الدورة الإنتاجية، الأمر الذي يحمي البيئة ويحد من التلوث".

وتشير تقارير إعلامية إلى أن لبنان يضم نحو 19 معملا للنفايات سواء للفرز أو للتسبيخ، 16 منها تدار بواسطة وزارة التنمية الإدارية بتكلفة تقارب 38 مليون يورو بهبات من الاتحاد الأوروبي.

وأشار الخبير إلى أن "تعزيز ثقافة إعادة التدوير والتقليل من النفايات تعد خطوة أساسية، من خلال التوعية المجتمعية حول أهمية الفرز من المصدر، وتشجيع استخدام المنتجات القابلة لإعادة التدوير والحد من استهلاك البلاستيك"، مضيفا "يمكن اعتماد تقنيات معالجة متقدمة مثل تحويل النفايات إلى طاقة عبر التوربينات البخارية أو الغازية لتوليد الكهرباء، أو اعتماد الحرق النظيف تحت رقابة صارمة للانبعاثات، ما يجعل إدارة النفايات جزءاً من منظومة اقتصادية وبيئية متكاملة لا عبئاً مزمناً على صحة الإنسان والطبيعة".

وحققت السويد ثورة في مجال إعادة تدوير المخلفات لدرجة أنها أصبحت خالية من القمامة تماما، وبات عليها استيراد القمامة من دول أخرى فقط للإبقاء على هذه الصناعة المربحة، وحسب إحصاءات رسمية سويدية، فإن نصف المخلفات المنزلية تقريبا يتم تحويلها إلى مصادر للطاقة لتدفئة المنازل في البرد القارس.

غير أن اعتماد هذه الحلول المستدامة لا يزال يواجه تحديات متعددة تعيق تطبيقها على أرض الواقع، إذ يصطدم لبنان بأزمة مالية خانقة تجعل الاستثمار في بنى تحتية حديثة لمعالجة النفايات أمراً بالغ الصعوبة، فيما يعاني القطاع الخاص من تردد في المشاركة بسبب المخاطر المالية وضعف الضمانات.

للخروج من المعالجات الظرفية

 الى مسار مؤسساتي مُتكامل

ويضاف إلى ذلك التعقيدات الإدارية والبيروقراطية، وغياب التنسيق الفعال بين الوزارات والبلديات، حيث تتعامل كل بلدية مع ملفها بشكل منفصل، ما يعرقل قيام استراتيجية وطنية موحدة لإدارة النفايات، كما يسهم ضعف الوعي البيئي لدى المواطنين في تفاقم المشكلة، إذ لا تزال ثقافة الفرز من المصدر محدودة وغير منتظمة، وغالباً ما تفشل المبادرات المحلية بسبب غياب التوعية والحوافز، لتبقى الحلول المستدامة رهينة العوائق المالية والإدارية والسلوكية التي تحتاج إلى إرادة سياسية ورؤية بيئية شاملة لتجاوزها.

وأمام هذه التحديات التي تعيق تطبيق الحلول المستدامة، تبرز الحاجة الملحة إلى وضع خطة بيئية وطنية شاملة وطويلة الأمد، تخرج ملف النفايات من منطق المعالجات الظرفية إلى مسار مؤسساتي متكامل، تقوم فيه الحكومة اللبنانية بالاستثمار الجاد في تطوير معامل الفرز، وإعادة التدوير وتحديث التشريعات بما يدعم أنظمة إدارة أكثر استدامة وشفافية، كما ينبغي تحفيز القطاع الخاص على الاستثمار في التقنيات الحديثة، مثل تحويل النفايات إلى طاقة، لما توفره من فرص اقتصادية وبيئية في آن واحد، بالتوازي مع تشجيع المواطنين على المشاركة الفاعلة من خلال حملات توعية مستمرة، وبرامج تحفيزية تعزز ثقافة المسؤولية البيئية الجماعية، بما يضمن بناء منظومة متكاملة لإدارة النفايات تحمي البيئة والصحة العامة وتضع لبنان على طريق التنمية المستدامة.

إعادة فتح المطامر ليست حلاً مستداماً لأزمة النفايات في لبنان، فالاعتماد على الطمر الصحي أو العشوائي قد يحول البلاد إلى مكب ضخم مستقبلاً.

ربى ابو فاضل - "الديار"

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا