فرص ضائعة للتوصّل إلى صفقة رهائن ووقف النار فلماذا الآن؟
في ملف غزة، وضع الرئيس الأميركي دونالد ترامب قيوداً قليلة، إن وُجدت، على الهجوم الإسرائيلي، متحدّياً الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار. ثم غيّر مساره. لماذا الآن؟ ولماذا استغرق الأمر 736 يوماً؟
كان هذا السؤال الذي تردّد في أجواء الاحتفالات في شوارع تل أبيب والقدس، بينما خرج مئات الآلاف إلى «ساحة الرهائن»، مترقبين الإفراج، أمس، عن 20 رهينة يُعتقد أنّهم ما زالوا على قَيد الحياة، واحتمال انتهاء حرب وحشية دمّرت غزة، وجعلت إسرائيل في آنٍ واحد أقوى من أي وقت مضى وأكثر عزلة ديبلوماسياً. ورفع المحتفلون صور الرهائن المتبقّين، وهتفوا عند ذكر اسم الرئيس ترامب، الذي يعتقد كثير من الإسرائيليِّين أنّه أجبر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على انتهاز هذه اللحظة. وأنصتوا باهتمام إلى كلٍّ من ستيف ويتكوف، المبعوث الخاص للرئيس، وجاريد كوشنر، صهره، وهما يخاطبان الحشود المبتهجة.
لكن فوق هذه اللحظة كان يُخيِّم سؤال: هل كان بالإمكان إتمام هذه الصفقة قبل ذلك بكثير، حين كان عدد أكبر من الرهائن ما زال على قيد الحياة، وقبل أن يُقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيِّين؟ كان هذا الجدل وراء صيحات الاستهجان التي علت في الساحة، عندما ذكر ويتكوف اسم نتنياهو. وبعدما سمع ردّ الفعل، حاول الدفاع عن نتنياهو قائلاً: «كنتُ في الخنادق مع رئيس الوزراء، وشاهدتُ كيف كان يسعى إلى مستقبل أكثر أمناً وقوّة للشعب اليهودي». فقوبِل ذلك بمزيد من الاستهجان.
قد يجادل المؤرّخون لسنوات عمّا إذا كانت حرب إسرائيل و»حماس» يمكن أن تنتهي قبل عام من الآن، عندما صادفت القوات الإسرائيلية وقتلت يحيى السنوار، زعيم «حماس» ومهندس مجزرة 7 تشرين الأول 2023. أو ربما ضاعت فرصة البناء على وقف إطلاق النار الذي تركه الرئيس جو بايدن وإدارته قائماً قبل أن يتسلّم ترامب السلطة. فعلى رغم من مشاركة ويتكوف في اتفاق كانون الثاني، لم يصمد، واستؤنفت الحرب في وقت مبكر من عهد ترامب، حاملةً معها مزيداً من الموت والمعاناة.
الجدل حول الحروب التي كان يمكن أن تنتهي في وقت أبكر، وتنقذ آلافاً أو ملايين الأرواح، ليس جديداً. ما زال المؤرّخون يناقشون ما إذا كانت اليابان ستستسلم أصلاً لو لم يُلقِ الرئيس هاري ترومان قنبلتَين ذريّتَين، وما إذا كان الرئيس ريتشارد نيكسون تأخّر سنوات في إنهاء حرب فيتنام. كلٌّ من بايدن وترامب دافعا عن الانسحاب المبكر من أفغانستان. وأوضح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن: «هذه لحظة مختلفة. لم يكن لدينا آنذاك ما لدى الرئيس ترامب الآن. «حماس» مهزومة عسكرياً، معزولة ديبلوماسياً، فَقَدت رعاتها (إيران و«حزب الله» والحوثيِّين) ونفّرت سكان غزة أنفسهم. حققت إسرائيل منذ زمن أهدافها الحربية بتدمير قدرة «حماس» على تكرار أحداث 7 تشرين الأول، وقتل القادة المسؤولين، وإن كان ذلك بثمن باهظ للمدنيِّين الفلسطينيِّين العالقين في مرمى النار. الشعب الإسرائيلي يُريد عودة الرهائن وإنهاء الحرب».
المناورات، الخداع، والانتخابات
قبل عامَين، سافر بايدن إلى إسرائيل لإظهار تضامنه، لكنّه وجّه تحذيراً (شديداً في الجلسات الخاصة، بحسب مساعديه، وأكثر لطفاً في العلن) من خطر المبالغة في الردّ.
أعلن بايدن في زيارته التي استغرقت يوماً واحداً: «يجب تحقيق العدالة، لكنّني أحذّر من أنّ الغضب لا ينبغي أن يستهلككم. بعد 11 أيلول كنّا غاضبين في الولايات المتحدة. سعينا لتحقيق العدالة وحققناها، لكنّنا ارتكبنا أخطاء أيضاً».
كان بايدن يردّ على حقيقة أنّ إسرائيل قطعت فعلياً كل إمدادات الغذاء والوقود عن غزة. في البداية، خفّفت الولايات المتحدة الضغط عن إسرائيل، حتى إنّها استخدمت الفيتو ضدّ قرار في مجلس الأمن، يدعو لفتح ممرات إنسانية لإدخال الغذاء وإجلاء المدنيِّين. وكشف المسؤولون الأميركيّون أنّ بايدن يحتاج إلى وقت للتفاوض بهدوء على صفقة.
لكن لم يكن أيّ من الطرفَين مستعداً. أمضت «حماس» صيف 2024 في التفاوض حول مدى انسحاب القوات الإسرائيلية من ممر فيلادلفيا.
ثم فاز ترامب بالرئاسة مجدّداً، وسعت إدارة بايدن إلى إقرار وقف إطلاق النار قبل مغادرتها في كانون الثاني. أعدّت خطة سلام كانت في معظمها مشابهة لـ»خطة النقاط العشرين» التي أعلنها ترامب لاحقاً.
وأوضح بلينكن: «سلّمنا وقف إطلاق نار أخرسَ البنادق، جلب الرهائن، أدخل المساعدات، ومعه خطة اليوم التالي لجعله دائماً. عندما تولّت الإدارة الجديدة السلطة، أُهدِرت اللحظة. فعادت إسرائيل و»حماس» إلى الحرب لـ8 أشهر».
ويروي المسؤولون الإسرائيليّون رواية مغايرة: قالوا إنّ بايدن كان رئيساً في نهاية ولايته، ومنصرفاً عن الملف، بينما كان ترامب شخصية معروفة وأقل ميلاً لتوبيخ نتنياهو سراً أو علناً، فاختاروا المراهنة على رئيس جديد وفريق تفاوضي جديد.
ميدان قتال متغيّر
تبدّل الوضع لمصلحة إسرائيل مطلع 2025. مقتل السنوار أدخل «حماس» في أزمة قيادة، فيما تصاعد الضغط العسكري الإسرائيلي مع نضوب ذخائر الحركة. وكشف بريت ماكغورك، الذي تولّى التفاوض في المنطقة منذ إدارة بوش وأدار المحادثات لصالح بايدن: «الحرب التي استمرّت 12 يوماً مع إيران غيّرت المعادلة فعلاً». فجأةً أدركت «حماس» أنّ الدولة التي موّلتها وسلّحتها لم يعُد يمكن الاعتماد عليها.
ويرى محلّلون فلسطينيّون أنّ عوامل عدة دفعت «حماس» إلى إعادة التفكير في جدوى الاحتفاظ بالرهائن.
عامل ترامب
ترامب معروف بأنّه لا يطيق الديبلوماسية التقليدية. فبينما يعتمد نهج وزارة الخارجية على رسم الخرائط واستخدام القنوات الرسمية وتحديد الحدود وسدّ الثغرات، يتفاوض ترامب كما كان يعقد صفقاته العقارية في نيويورك: بمفاهيم عامة وترك التفاصيل للآخرين. يؤكّد مسؤولو الإدارة أنّ النتيجة تشير إلى أنّ هذا النهج قد يكون نموذج ترامب في المستقبل. فمنذ تولّي ترامب الرئاسة، استفاد نتنياهو إلى حدٍّ كبير من تغيّر النغمة. استقبله ترامب في البيت الأبيض 4 مرّات، أكثر من أي زعيم آخر، ودعا إلى إلغاء محاكمة الفساد ضدّه، ورفض الاعتراف بدولة فلسطينية، وأمر القوات الأميركية بقصف مواقع نووية إيرانية.
في غزة، وضع الرئيس قيوداً قليلة، إن وُجِدت، على الهجوم الإسرائيلي، متحدّياً مطالب دولية بوقف إطلاق النار.
أضاع ترامب أسابيع منشغلاً بخطة غريبة لضمّ غزة، بطرد الفلسطينيِّين منها وبناء منتجع ساحلي لامع يشبه ميامي. فنشر فيديو من إنتاج الذكاء الاصطناعي يُصوّر مدينة منتجعات فاخرة، يظهر فيه ونتنياهو يحتسيان القهوة، فسايَره الأخير، مثنِياً على «رؤيته»، بينما كان يواصل التصعيد العسكري.
كما أشار ترامب إلى أهمية الصفقة بإعادة كوشنر إلى دوامة الديبلوماسية، آملاً في استغلال علاقاته التجارية مع قطر وغيرها في المنطقة لتحقيق مكاسب. لكنّ تلك الصلات أثارت انتقادات لترامب، إذ رأى خصومه أنّ حدوده بين الديبلوماسية والمصالح الربحية تزداد غموضاً.
غير أنّ محاولة إسرائيل اغتيال مفاوضي «حماس» في قطر عبر قصف مقرّهم الموقت أغضبت ترامب وأيقظته. ومنحت الولايات المتحدة فرصة لتوحيد الدول العربية حول «خطة النقاط العشرين»، حتى لو اعتقدت تلك الدول أنّ كثيراً من تفاصيلها غير واقعية.
وعندما دعا ترامب نتنياهو إلى البيت الأبيض في أيلول، عقب افتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة، كان رئيس الوزراء في موقف لا يسمح له بالرفض. اضطرّ إلى الاتصال برئيس وزراء قطر وقراءة اعتذار علني أمام عدسات مصوّري البيت الأبيض. كانت الرسالة واضحة: نتنياهو بات يعيش في عالم جديد، عليه أن يُصغي فيه لبعض الإملاءات الأميركية. ثم ضغط ترامب على الزعيم الإسرائيلي لتوقيع «خطة النقاط العشرين»، التي تنصّ على وقف إطلاق النار وإقامة «حكومة تكنوقراطية» موقتة في غزة بدعم قوة استقرار دولية. وعلى رغم من أنّ الخطة لم تحقق أقصى مطالب نتنياهو، فقد اضطرّ للموافقة عليها، مديناً لترامب ومدركاً أنّ استفزاز شريكه المتقلّب قد تكون له عواقب سلبية عليه وعلى إسرائيل.
وربما كان يعوّل أيضاً على أنّ «حماس» سترفض الصفقة، لأنّها تتطلّب من الحركة نزع سلاحها ومغادرة القطاع. لكنّ «حماس» أجابت «نعم، ولكن»، إذ وافقت على الشروط الأولى (إطلاق الرهائن مقابل تبادل الأسرى) مع الإصرار على مفاوضات لاحقة بشأن الخطوات الحاسمة التالية. تجاهل ترامب كلمة «لكن»، واعتبر الموافقة الجزئية قبولاً كاملاً.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|