الكبتاغون السوري: الحكاية التي لم تنتهِ بعد
عُرفت سوريا، قبل العام 2011، بكونها «معبرا» لتجارة المخدرات الواردة من أفغانستان وإيران بالدرجة الأولى، لكن تلك الصفة تغيرت بعد العام 2013، لتحمل سوريا صفة «البلد المصنع»، حيث سيؤدي الانكماش الحاصل في الاقتصاد السوري، وكذا الأضرار الواقعة على هذا الأخير بفعل الحرب، دورا كبيرا في دفع النظام السابق بالبلاد لحمل تلك «الصفة» على الرغم من الأكلاف الباهظة التي ترتبت على فعل من هذا النوع. وقد أشارت دراسة صادرة عن «مركز التحليلات العملياتية والأبحاث “COAR” إلى أن حجم المواد المخدرة الآتية من سوريا، والتي تمت مصادرتها ما بين 2013 - 2015، زاد بنسبة 4 - 6 أضعاف مقارنة بما كانت عليه قبل العام 2011»، وفي تقرير لاحق لهذا المصدر الأخير ذكر أن تلك النسبة «زادت ما بين 6 - 21 ضعف في الأعوام ما بين 2018 - 2020»، وهذا مؤشر دال على تنامي تلك الصناعة وتوسع قاعدتها الذي كان يجري، من دون أدنى شك، بقرار صادر عن أعلى رأس هرم السلطة، لكن هذه الأرقام سوف تشهد لاحقا، خصوصا بعد العقوبات التي أقرت على نظام الأسد بموجب «قانون قيصر»، عام 2019، ارتفاعا كبيرا وبما لا يقاس بسابقاتها، فقد أشار «مركز COAR» في تقرير له العام 2020 إلى إن «السلطات في أوربا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا صادرت ما لا يقل عن 137 مليون حبة كبتاغون، و12.1 طن من الحشيش، المصدرة من سوريا»، كما كشف تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز»، نشرته العام 2021، أن «معظم عمليات إنتاج وتوزيع المخدرات في سورية تتم بإشراف الفرقة الرابعة المدرعة في جيش نظام الأسد»، وقد كشفت اللحظات الأولى لسقوط النظام، الذي أتاح للعديد من وسائل الإعلام الوصول إلى كثير من المستودعات ومراكز التصنيع، التي كان بعضها «حوانيت» صغيرة، بالتزامن مع مداهمتها أو حتى قبيل ذلك، أن «الصنعة» كانت قد تحولت ما بعد هذا العام الأخير إلى أمر هو غاية في «البساطة»، فكل ما يلزم لـ «المستثمر» هو مواد أولية، يمكن الحصول عليها عبر شركات دوائية، و «مكبس» قادر على انتاج عشرات الآلاف من الأقراص خلال ساعات، وكل ما يتبقى هو الحصول على «غطاء»، الأمر الذي لم يكن صعبا بدرجة كبيرة، خصوصا إذا ما توافرت لـ «المستثمر» شروط القبول لدخول «السوق».
مع سقوط نظام الأسد وجدت الشبكات، المعنية بالتصنيع والتسويق، نفسها أمام حالة فوضى بنتيجة عوامل عديدة، لكن الأبرز منها هو انكشافها بفعل غياب «مظلة» الحماية، التي تمثل ركنا أساسيا لنجاح عملها، ولذا فقد أفادت العديد من التقارير، الصادرة خلال الأشهر الثلاثة الأولى، بحدوث «انخفاض كبير في عمليات انتاج أقراص الكبتاغون على الأراضي السورية»، كما أفادت التقارير الصادرة عن عمان، العاصمة الأردنية، بـ«انخفاض كميات الكبتاغون» الواردة إليها من الأراضي السورية، لكن ذلك لم يكن يعني تفكيكا كاملا لتلك الشبكات، والشاهد هو أن بعض نشاطاتها راحت تظهر للعلن، والراجح أن بعضا منها قد دخل «طور التعافي» تمهيدا لدخوله مرحلة النشاط من جديد، وإذا ما كان من المؤكد، أقله حتى الآن، أن ذلك يحدث خارج «مظلة» السلطة، التي تدرك جيدا مخاطر فعل من هذا النوع على مشروعيتها وقبولها من المجتمع الدولي، فإن الخطوات التي قامت بها هذه الأخيرة لا تزال ناقصة حيال ظاهرة «متجذرة»، وهي تبدي «مرونة» لافتة في التعايش مع الظروف المستجدة.
اقتصرت وسائل السلطة لمعالجة تلك الظاهرة، التي شكلت، ولا تزال، مصدر قلق للجوار، بل ولدول بعيدة مثل إيطاليا، على اقتحام المخازن وأماكن التصنيع، لكن عدم قدرتها على بسط سلطتها الأمنية على امتداد البلاد أتاح لبعض «الشبكات» الظهور من جديد، حيث تقوم «منهجيتها» المستحدثة على خلايا منزلية صغيرة، ومتنقلة أيضا، أما أماكن التخزين فيختار لها الأماكن المهجورة البعيدة عن الأنظار، وفي بعض الحالات يمكن لبعض الورش أن تتخذ واجهة «شرعية» لها، مثل شركات دوائية، أو أي شيء آخر، وهذه «الآليات» لا يجب النظر إليها على قاعدة أنها تمثل تراجعا في «الظاهرة» أو «الصنعة»، وبالتالي فهي ضعيفة التأثير قياسا لما سبق، لأن «بناها التحتية» و «خبرات» أصحابها كفيلان بتطويرها إذا ما سنحت الظروف بذلك، وفي ظل ضعف القبضة الأمنية الحاصل لاعتبارات عديدة، يمكن لتلك «البنى والخبرات» إعادة النشاط من جديد خصوصا أن الواقع المعيشي المتردي يمكن له أن يؤدي دور «الخزان» القادر على تأمين كوادر جديدة بسهولة ويسر، وهزيمتها المستدامة تحتاج إلى وقت قد يطول، أو يقصر، تبعا للاستراتيجية التي يجري العمل من خلالها لتحقيق تلك الهزيمة، وهذه الأخيرة لن تنجح إلا بوجود تنسيق، ودعم، إقليمي و دولي، يقوم أساسا على تكاتف الجهود الأمنية بين دول الجوار وصولا إلى الدول المتضررة البعيدة، ثم يقوم على «تجفيف» المستنقعات التي تستمد منها تلك التجارة جذوتها الكبرى، وإذا ما تأخرت المساعدات، والتمويل الخارجي، فإن ذلك سيؤدي حتما إلى تحفيز شبكات قديمة، كاتت قد دخلت طور السكون والترقب، والدفع بها لمزاولة نشاطها من جديد، ولربما بوتيرة أعلى مما سبق.
غبد المنعم علي عيسى-الديار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|