غزّة ولبنان بين التسويات الكبرى والواقع الاستراتيجيّ
كتب أنطوان العويط:
أعادت حربُ غزّة الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب إلى المسرح الدوليّ من الباب العريض، لا كمراقبٍ عابر في مشهدٍ مضطرب، بل كمهندسٍ لمرحلةٍ جديدة يعاد فيها رسم معالم النظام العالميّ. فالإنجاز الذي حقّقه لم يكن مجرّد اتفاقٍ ميدانيّ أنهى جولةً داميةً أخرى في تاريخٍ مثقلٍ بالنزاعات، بل لحظةً مفصليّة أعادت للقرار الأميركيّ هيبته التي تآكلت عبر عقودٍ من التردّد والانكفاء. وهكذا بدا أنّ واشنطن تفتتح زمنًا سياسيًّا جديدًا في الشرق الأوسط، تطوي فيه صفحة الحروب الممتدّة منذ الأربعينات، وتؤسّس لمرحلة تتقدّم فيها الولايات المتّحدة كقوّةٍ ناظمة للسلام، لا يمكن تجاهلها بعد اليوم.
لقد استطاع الرجل أن يفرض تسويةً في واحدٍ من أعقد ملفّات الشرق الأوسط وأكثرها تشابكًا، واضعًا مزيجًا فريدًا من الحزم العسكريّ والضغط الاقتصاديّ والدبلوماسيّة الذكيّة في معادلةٍ واحدة متكاملة. لم يكتفِ بإدارة الأزمة، بل أعاد هندسة التوازنات الإقليميّة والدوليّة من موقع الممسك بخيوط اللعبة، موجّهًا رسالةً واضحة إلى خصوم واشنطن وحلفائها على حدّ سواء: إنّ الولايات المتحدة قد عادت لتصوغ قواعد السلام في المنطقة، بقبضةٍ حازمة وعقلٍ صانع يدرك تمامًا أين تُخاض الحروب وأين تُقطف ثمارها.
فمن ناحيةٍ، تمكّن ترامب من كبح اندفاعة بنيامين نتنياهو وإقناعه بوقف الحرب وترسيخ الهدوء في غزّة، فاتحًا الباب أمام مرحلةٍ سياسيّة جديدة عنوانها السلام وتوسيع رقعة "الاتفاقات الإبراهيميّة". بدا وكأنّه يمنح نتنياهو فرصةً للانتقال من زمن الحرب إلى زمن السلام، من دون أن يتيح له المجال لإفساد ما يعتبره نصره الشخصيّ أو لجرّ المنطقة نحو مواجهة جديدة تهدّد المصالح الأميركيّة وتنسف الاختراق التاريخيّ الذي تحقّق.
ومن ناحيةٍ ثانية، نجح في احتواء حركة "حماس" ضمن مقاربة واقعيّة سمحت بظهورٍ أمنيّ محدود لعناصرها في القطاع خلال تسليم الأسرى وضبط الوضع مؤقتًا، ريثما تتبلور صيغة "اليوم التالي". غير أنّ هذا الانفتاح المشروط ارتبط بإلزام الحركة بتنفيذ المرحلة الثانية من الخطّة الأميركيّة، القائمة على التخلّي عن السلاح وتشكيل هيئة حكم انتقاليّ بإسناد "قوة استقرار دوليّة" تمهيدًا لإعادة الإعمار، وهو ما ضغطت لتحقيقه مصر وقطر وتركيا.
صحيح أنّ الأساليب الإسرائيليّة المتّبعة في الحرب أسفرت عن مكاسب سياسيّة للفلسطينيين، تمثّلت في اعترافٍ دوليّ أوسع بالقضيّة وبالدولة الفلسطينيّة، غير أنّ حركة "حماس" وجدت نفسها في نهاية المطاف أمام مأزق وجوديّ لا مفرّ منه، فاضطرت للقبول بخطّة ترامب، وإن بدت أقرب إلى اتفاق استسلام. جاء ذلك بعد حرب استنزافيّة طويلة وضغوط خانقة من الداخل والخارج، بما في ذلك من حلفائها التقليديين، وسط شبه إجماع على أن لا مكان لها في إدارة غزّة المقبلة.
ومع انتهاء المرحلة الأولى من خطّة ترامب بسرعة، بعد تنفيذ عمليّة تبادل الرهائن والأسرى، دخلت غزّة المرحلة الثانية والأصعب، حيث يبدأ الاختبار الحقيقيّ المرتبط بنزع سلاح "حماس" وتحديد الجهّة التي ستتولّى إدارة القطاع. ورغم الاعتقاد الواسع بأن الحرب هناك قد انتهت بعدما أصبح الأمر التزامًا شخصيًا عند ترامب، فإن الحقيقة أنّ النزاع لم يُغلق بعد أبوابه، إذ تستمر فصوله وسط سؤال مركزيّ حول لبنان، حيث الصورة ما زالت غامضة والمشهد النهائيّ لم يتبلور بعد.
كان الرئيس الأميركي قد خصَّص فقرة عن لبنان في خطابه أمام الكنيست، مؤكّدًا دعم إدارة الرئيس اللبنانيّ في نزع سلاح "حزب الله"، ومعتبرًا أن لبنان يقوم بعمل رائع على هذا الصعيد. وإذ قال: "حزب الله هو خنجر ضرب إسرائيل وأنهيناه"، أضاف: "في لبنان تمّ تدمير حزب الله، وندعم نزع سلاحه وحصره بيد الدولة، وبناء دولة تعيش بسلام مع جيرانها".
كما تطرّق إلى لبنان في حديث آخر قائلاً: "نحن نبني مستقبلاً جديدًا. الروابط التجاريّة التي سننشئها هنا ستكون بين تل أبيب ودبي، وبين حيفا وبيروت، وبين القدس ودمشق، وبين إسرائيل ومصر والسعودية وقطر".
بالمقابل، شكّل تصريح الرئيس جوزاف عون حول "سير الأمور نحو التفاوض لإرساء السلام والاستقرار، لذلك نقول دائمًا إنّه بالحوار والتفاوض يمكن الوصول إلى حلول، ولا يمكن أن نكون نحن خارج المسار القائم في المنطقة، وهو مسار تسوية الأزمات، ولا بدّ أن نكون ضمنه، إذ لم يعد بالإمكان تحمّل المزيد من الحرب والقتل والتهجير"، منعطفًا دقيقًا في المسار السياسيّ اللبنانيّ. فقد جاء معبّرًا عن تحوّل إلى مرحلة الواقعيّة الاستراتيجيّة، في ظلّ المتغيّرات العميقة التي تهزّ النظام الإقليميّ، والتي، رغم أنها لم تُترجم بعد إلى مبادرة سياسيّة رسميّة، أطلقت إشارة واضحة مفادها أن لبنان لم يعد قادرًا على البقاء خارج دينامية التسويات الكبرى.
في الواقع، لن تنسحب إسرائيل من جنوب لبنان ولن توقف هجماتها إلاّ بعد أن يسلّم "حزب الله" سلاحه، وتُستحدث ترتيبات جديدة تقدّم الضمانات المطلوبة لبيروت وتل أبيب. والعالم أجمع، بما في ذلك أقرب الأصدقاء للبنان، لن يبادروا، ولن يساهموا، ولن يعيدوا الإعمار، ولا حتّى يمارسوا أيّ ضغط على إسرائيل، في ظلّ رفض الحزب تسليم سلاحه، وتوجّه الدولة اللبنانيّة الطبيعيّ بعدم الاشتباك معه للحفاظ على الاستقرار والسلم الأهليّ.
لبنان يقف اليوم عند مفترق مصيريّ بين أن يظلّ ساحة صراع أو أن يتحوّل إلى لاعب في معادلة الشرق الأوسط الجديدة. المستقبل القريب يتطلّب من السلطة المبادرة بحكمة في إدارة اللحظة الراهنة، وضبط السلاح بيد الدولة، والانخراط بفعاليّة في دينامية التسويات الكبرى. فقط عبر هذا المسار يمكن للبنان أن ينهض من هشاشته، ويؤسّس لسلام مستدام، واستقرار داخليّ، وعلاقات متوازنة مع محيطه الإقليميّ، ويعيد لنفسه مكانة الدولة الفاعلة التي يحلم بها شعبه منذ عقود.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|