تنظيم الدروز الدينيّ... قراءة تاريخية للتحدّيات والأزمات
«اترك قصّة لأولادك يتدفأون بها في ليالي الشتاء القارس»، هذا المثل الأوكراني، يشير إلى أهمية معرفة التاريخ وصونه، كمدماك أساسي في الحفاظ على الشعوب والجماعات وما تختزنها من قيم ومبادئ. ولأنّ تاريخ لبنان هو مجموعة هويات ومجتمعات متعدّدة، لها خصائصها وتركيباتها الدينية والسياسية والاجتماعية المتمايزة، تنعكس حكماً على سلوكيات ««لجماعة الحضارية» (الطائفة) وقراراتها بشكل أساسي، كما على صعيد المجموعات الأخرى المتآلفة معاً في عقد اجتماعي وطنيّ. ولطالما شكّل الدروز علامة فارقة في التكوين اللّبناني، إذ كانوا من أكثر الجماعات حفاظاً وصوناً لهويتهم وتراثهم الديني وتقاليده، غير أن ما تشهده الطائفة في الآونة الأخيرة على صعيد السلطة الدينية من تباينات وتجاذبات ظهرت إلى العلن بين أركانها، يدفعنا للعودة إلى تاريخها وأصولها.
من هذا المنطلق، كان لـ«نداء الوطن» حوار مع الأكاديمي والباحث في التاريخ سعيد أبو زكي نظراً لإسهامه العلمي والبحثي عبر أطروحته في تاريخ مشيخة العقل في لبنان، والتي نالت درجة ممتاز من الجامعة الأميركية في بيروت مع توصية بالنشر، وبلورها في كتابه الجديد «مشيخة عقل الدروز في لبنان: بحثٌ في أصولها ومعناها وتطوّرها» الصادر عن «دار المشرق». يقدّم الكتاب، والذي هو أوّل عمل متخصّص في مجاله، بحثاً مُفصّلاً عن تنظيم الدّروز الدّينيّ ومراحل تطوّره في لبنان طوال القرون الخمسة الماضية.
عندما بدأ أبو زكي إعداد الرسالة في العام 2002، «كانت مشيخة العقل تعاني حينذاك حالة شاذة لم يسبق لها مثيل في التاريخ المعاصر. فبعد وفاة شيخ العقل محمّد أبو شقرا في العام 1991، تولّى بهجت غيث، وبخلاف إرادة المرجعيات الدينيّة الكبرى، مهام شيخ العقل بالوكالة. وجرى ذلك استناداً إلى رسالة نُسبت إلى شيخ العقل الراحل محمّد أبو شقرا كلّفه فيها بالقيام بمهام المشيخة أثناء مرضه». وجرى ذلك بالرغم من أنّ الرسالة المذكورة لا تأتي على ذكر مرحلة ما بعد وفاته. ثمّ يوضح من جهة أخرى ان «تنظيم «انتخاب شيخ عقل الطائفة الدرزية» الصادر عام 1962، والمعمول به وقتذاك، لم يعطِ شيخ العقل الحاضر حقّ تعيين خلف له في المشيخة، بل نصّ على وجوب اختيار شيخ عقل جديد بعد وفاة الشيخ السابق بمهلة لا تتخطّى التسعين يوماً وذلك بالانتخاب المباشر من قبل عامّة الدروز».
وتابع: «بعدما رفضت المرجعيات الدينية الدرزية العليا استمرار غيث بتولّي مهام المشيخة بالوكالة، قامت بعزله في العام 1995 من منصبه، واعتبروا منصب شيخ العقل شاغراً وغيث مُنتحل صفة، ودعوا إلى توحيد المشيخة قانوناً وإلى تعيين شيخ عقل جامع. وحدث ذلك في اجتماع دينيّ عقد في خلوة المرجع الدينيّ الكبير الشيخ أبو محمد جواد وليّ الدين (توفّي عام 2012) في بعقلين».
ويلفت أبو زكي إلى «المتغيّرات السياسية [تلك مهدت الطريق] لإقرار قانون جديد لتنظيم الطائفة، ومن ضمنها [تنظيم شؤون] مشيخة العقل. ونصّ القانون الجديد الذي أقرّه مجلس النواب اللبناني مطلع أيّار من العام 2006 على أحادية مشيخة العقل. غير أنّ رجحان نفوذ وليد جنبلاط السياسي بين دروز لبنان جعل من فوز أنصاره بأكثرية مقرّرة في المجلس المذهبي الذي كان سينتخب بموجب القانون الجديد حتميّاً، فقرّرت الزعامات السياسية الأخرى مقاطعة انتخابات المجلس المذهبي بغرض نزع الصفة التمثيلية الجامعة عنه، إذ عقد طلال أرسلان اجتماعاً حاشداً في خلدة، سمّى فيه الشيخ نصر الدين الغريب شيخ عقل. مع ذلك، أُعلن في 15 تشرين الأوّل فوز القاضي نعيم حسن، وهو الذي وقع عليه اختيار جنبلاط بالتزكية وتنصيبه «شيخ عقل»، ويكرّس انقسام مشيخة عقل الدروز في لبنان على أسس سياسية».
وإذا عدنا قليلاً في التاريخ، يظهر أنّ ما شهدته مشيخة العقل في العام 2006 كان نقيض ما حدث قبل أكثر من ثلاثة عقود. «فقد بقي الشيخ محمّد أبو شقرا بحكم الأمر الواقع شيخ عقل الطائفة الوحيد منذ العام 1970 وحتى وفاته في العام 1991، إذ أنّ القانون النافذ وقتذاك نصّ على وجود ثنائيّة في المشيخة»، وفق أبو زكي، موضحاً أن «ذلك حدث بعد أن اتفقت القيادات الدرزيّة الروحيّة والسياسيّة على عدم انتخاب شيخ عقل ثانٍ بعد شغور الكرسي اليزبكي بوفاة الشيخ رشيد حمادة في العام 1970، فظلّ أبو شقرا شيخ عقل دروز لبنان لحين وفاته».
من هو شيخ العقل؟
بادئ ذي بدء، يُسقط أبو زكي الأبعاد الفلسفية والماورائية عن المنصب، إذ يؤكّد وفق المصادر التاريخية، «أن شيخ العقل هو صنيعة لبنانية، من قلب جبل لبنان، يختصّ بدروزه فقط، قبل أن ينتقل في ما بعد إلى دروز سوريا وفلسطين في القرن العشرين.
بدأت الحكاية مع اهتمام المجتمع الدرزي في العائلات والنسب الشريف بالمعنيين اللبناني والعربي، والتي تعود إلى شبه الجزيرة العربية، إلى قريش ونسل اسماعيل. هذا الاهتمام، خلق طبقة اسمها شيوخ النسب وكان لها رفعة اجتماعية مميّزة عن العامة. في القرن الخامس عشر، سطع نجم الأمير السيّد عبدالله جمال الدّين التنّوخي المولود في بلدة عبيه اللبنانية، نسبته إلى بني تنّوخ وهم أشرف القبائل العربيّة، فكان علماً من أعلام الدروز وأبرزهم. وقام الأمير السيّد عبد الله التنوخي بأهم حركة إصلاح دينيّ في تاريخهم أرسى من خلالها تنظيماً دينياً دقيقاً غرضه التنشئة الروحيّة المتكاملة. من ذلك التنظيم الدقيق بالتحديد، نبعت لاحقاً مشيخة العقل. وقد أعاد الأمير السيّد عبد الله التنوخي تصويب سلوك عقّال الدروز الديني وضبط حياتهم الروحيّة وعمل على تحريرها من قيد عائلات النسب، جاعلاً من الفضيلة المعرفيّة المسلكيّة شرطاً أساسيّاً لتحقيق شروط الرئاسة الدينيّة. ثمّ أسّس الأمير السيّد للأوقاف الدينيّة والتي التصقت منذ البدايات، بالقيادة الروحيّة للمجتمع».
ويضيف أبو زكي: «أثناء الحكم العثماني، تمتّع الدروز نتيجة ثورتهم بحكم ذاتي، وتشكّلت لديهم طبقة من شيوخ الإقطاع إلى جانب شيوخ النسب والدين، ومن أجل التمييز بين مشايخ الفئات الثلاث، أطلق لقب «شيخ العقل» على شيوخ الدين. وفي العام 1825، شهد لبنان «حرباً داخلية» انتهت بانتصار الأمير بشير الشهابي الثاني المدعوم من والي مصر ووالي عكّا وفرنسا، على زعماء الطائفة كبشير جنبلاط وعلي عماد (عن اليزبكيين) وفاعلياتها من جهّة أخرى»، فقرّر الأمير بشير أن يقتص من المرجعيات الدينية لدعمها المعسكر الآخر، بتعيين شيخ جنبلاطي وآخر يزبكي، وأطلق عليهما لقب «شيخ العقل». وأسّس هذا الحدث لمرحلة الانفصال بين مشيخة العقل والرئاسة الروحيّة، فانكفأ الرئيس الروحي تدريجياً عن الأضواء والمهام الرسميّة محتفظاً بصلاحياته الروحية بهدف الحفاظ على استقلالية الهيئة الروحية وحماية وظائفها الدينيّة الأساسيّة.
ولطالما يشدّد الباحث سعيد أبو زكي على مفهوم «التاريخ المفيد»، الذي لا يقف عند سرد ومعالجة الأحداث الماضية فقط، إنّما يعالج الإشكاليات الحاضرة على ضوء التاريخ. وما تمرّ به طائفة الموحدّين الدروز اليوم من تحدّيات تهدّد وحدة هيئتهم الدينيّة بعد الإنقسام في مشيخة العقل، ووصول الخلافات أخيراً إلى الهيئة الروحيّة الدّرزية، حيث انقسم المشايخ بين مؤيّد لتلبيس الشيخ أمين مكارم «اللفّة المدوريّة» من دون موافقة رئيس الدروز الروحي الشيخ أمين الصايغ، ومؤيد لرئيس الدّروز الروحي الشيخ أمين الصايغ الرافض للخطوة المذكورة لمخالفتها الأعراف الروحيّة المتّبعة من قبل المشايخ الثقات من المتوّجين بالعمامة «المدوّرة».
ليس هذا بجديد، إذ يعود التشرذم إلى العام 2006 مع انتخاب شيخ العقل نعيم حسن كما ذكرنا في فقرة سابقة. في هذا الإطار يكشف أبو زكي (لأول مرّة)، ما سمعه مباشرة من رئيس الدروز الروحيّ آنذاك الشيخ محمد جواد وليّ الدين، عن «تصوّره لانتخاب شيخ العقل على قاعدة احترام حق الهيئة الدينية باختيار ممثلها من ناحية، واحترام رأي أهلّ السياسة من فاعليّات الطائفة الاجتماعيّة من جهة أخرى، نظراً لدور شيخ العقل ومكانته في المجتمع الزمنيّ، داعياً إلى انعقاد الهيئة الدينية العليا في مكان عام (له حيثيته ومكانته ويتّسع لجمع)، لاختيار اسمين تثق بهما الهيئة الروحيّة فترشّحهما لتبوّؤ منصب شيخ العقل؛ ليتمّ بعدها تقديم الاسمين إلى المجلس المذهبي لينتخب أعضاؤه من يرونه مناسباً لمشيخة العقل. وكان لمثل هذه الآليّة، بنظر أبو زكي، أن تحول دون انقسام مشيخة العقل من جديد لانبثاق شيخ العقل المنتخب من إرادة الهيئة الدينيّة الجامعة، والمترفّعة عن الانقسامات السياسيّة. بيد أن جنبلاط اتخذ مساراً مغايراً، ما دفع الشيخ وليّ الدين إلى الانكفاء والطلب من بعض المشايخ سحب ترشيحهم للمجلس المذهبي. ويوضح أبو زكي موقف الشيخ وليّ الدين بالإشارة إلى ما تبيّن له في بحثه من سلوكيات عقال الدروز التي تترفّع عن «المزاركة» وبخاصة على المناصب والمراتب، فكأنّ لسان حاله يقول: «بدكم مشيخة العقل سياسيّة خذوها»؛ فالهمّ الأساسي للرئيس الروحيّ هو استقلاليّة الهيئة الدينية ومرجعيّاتها العليا؛ ومشيخة العقل لم تعد كذلك منذ زمن بعيد».
واعتبر أبو زكي أن القانون الذي يُعطي المجلس المذهبي حقّ انتخاب شيخ العقل، تحوّل في الواقع إلى عملية تعيين لشيخ العقل، إذ تمّ حصر المرشحين للمنصب باسم واحد من اختيار جنبلاط، فتمّ في العام 2006 تزكية شيخ السابق نعيم حسن وتكرّر الأمر نفسه في العام 2021 بتزكية شيخ العقل الحالي سامي أبي المنى، وذلك من دون أن ينالا بركة الهيئة الدينية؛ الأمر الذي كرّس حالات الإنقسام.
وما «زاد الطين بلّة»، هو «الحضور الفاعل لرجال دين دروز لا يتبعون المرجعيات الدينيّة الأصيلة في النشاطات السياسية لدى أحزاب الطائفة كافة، فيما كانوا بالماضي يتمثّلون بحضور محدود لا يتخطّى الدعم العام للقوى السياسية كونها تمثّل مصالح الطائفة تجاه الدولة وترعاها عندها، من دون قصد إضفاء أي غطاء شرعي أو ديني للأحزاب والمرجعيات السياسيّة إلّا إذا اتصل الأمر بأحداث مفصليّة تتعلق بمصير الطائفة عموماً».
ولفت أبو زكي إلى أنه «رغم الجولات المتكررّة التي يقوم بها الشيخ سامي أبي المنى للمناطق والهيئات الدينية، والتي تحظى بدعم من جهات سياسية ومؤسسات تخضع لنفوذها، لم يحظَ حتى اليوم باعتراف وقبول ومباركة، من قبل الرئيس الروحي للدروز، الشيخ أبو يوسف أمين الصايغ».
وفي ردّه على إنكار البعض لمرجعية الشيخ أمين الصايغ الذي رفض ارتداء الشيخ أبو فايز أمين مكارم للعمامة «المكولسة» أو «المدوّرة» التي تعدّ أرفع رتبة دينية عند الدروز، يجيب أبو زكي أنّه لا يحقّ لأحد تكليف شيخ آخر بارتداء هذه العمامة المميّزة إلا أنّ يكون رجل دين ثقة متوجاً بها من قبل شيخ ثقة أيضًا، وبعد مشورة أعيان رجال الدين الدروز في وقته. ويوضح أبو زكي، وذلك بالاستناد إلى المواقف المعلنة للرئيس الروحي الراحل محمد جواد وليّ الدين (المتوفى عام 2012) بعد العام 2006، أنّ الأخير توّج في العام 2006 الشيخ أمين الصايغ (والذي يصغره سنًا بكثير) بالعمامة المدوّرة تكليفًا ليكون دون غيره خلفه بالرئاسة الروحيّة، وتوّج الشيخ أبو سعيد أمين بو غنّام من بلدة عرمون (والذي يكبره سنًا) تكريماً لتحقّقه الديني. ومن الأهميّة بمكان التشديد على أنّه قام بهذه الخطوة من دون أن يستشير أي رجل سياسي ولم يقم أيضاً بإعلام شيخ العقل المعيّن في خلدة والمحسوب على اليزبكيّين، وحدث ذلك قبل يوم واحد من تسلّم الشيخ نعيم حسن (عن الجنبلاطيين) مشيخة العقل»، فلم يعلمه أيضا.
وأردف أبو زكي أن الشيخ وليّ الدين كان قد حرص على تثبيت مرجعيّة الشيخ الصايغ وتكليفه بمهامه حتى قبل وفاته؛ وذلك، بالطلب من الذين يقصدونه في القضايا الدينية بمراجعة الشيخ الصايغ بها». وكما أنّ الشيخ وليّ الدين لم يتوّج قبل الشيخَيْن المذكورين إلّا الشيخ أبو سعيد حمود حسن (البنيه، توفي 2004) في مأتمه تكريمًا؛ ولم يتوّج بعدهما، وبعكس ما يدعي البعض، أي شيخ آخر حتى وفاته؛ ليصبح الشيخ أمين الصايغ الباب الوحيد الشرعي الذي يمكن الولوج من خلاله إلى تتويج مشايخ جدّد بالعمامة المدوّرة.
وصف كولونيل بريطاني سكن جبل لبنان لمدة عشر سنوات في منتصف القرن التاسع عشر، دورهم المحوري بقوله: «في الحقيقة، يمكن القول إنّ العقّال (ويقصد مرجعيّاتهم) يؤلّفون نوعاً من مجلس شيوخ في جسم الدّروز السياسيّ؛ فهم بيقظتهم المتنبّهة وبصيرتهم المميّزة يبسطون درعاً حامياً على الطائفة بكاملها»، وختم أبو زكي مشدّداً على «أنّ مصالح الطائفة العليا تقتضي الحفاظ على دور هذه المرجعيّات واستقلاليّتها، لتشكل مرجعيّة جامعة للدروز تتخطى النزاعات الحزبيّة والسياسية».
طوني عطية - نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|