هزيمة "حزب الله" = سقوط منظومة المخدّرات
يا لها من صدفة غريبة عجيبة. نوح زعيتر، "إسكوبار لبنان" وأبرز بارونات المخدّرات فيه، يعتقل من قبل الجيش اللبناني، من دون أي مقاومة (التعبير هنا منتقى بدقة)، في هذه المرحلة بالذات. ماذا تغيّر في العام الأخير؟ الجيش اللبناني هو نفسه، نوح زعيتر هو نفسه، القضاء اللبناني هو نفسه، حتى مجلس النواب هو نفسه. بكل بساطة، الشيء الوحيد الذي تغيّر هو أن "حزب الله" هزم في الحرب الأخيرة مع إسرائيل (مع أنه لم يسحق). هزيمة "الحزب" جعلت من التنظيم غير قادر على حماية أحد أبرز حلفائه غير السياسيين في الداخل اللبناني، نوح زعيتر، من الاعتقال. بهذا المعنى، ثبّت اعتقال زعيتر نظريّة تحالف المافيا والميليشيا، بل أعطاها بعدًا جديدًا، عبر الإقرار بالمعادلة التالية: إن هزيمة "حزب الله" العسكرية أمام إسرائيل هي الممر الإلزامي للقضاء على إمبراطورية المخدّرات اللبنانية، بعد أن كان فائض القوّة العسكري والسياسي لدى "الحزب" الممر الإلزامي للسماح لتجار المخدرات الكبار بإنشاء منظومة استثنائية عابرة للحدود، بالتكافل والتضامن مع النظام البعثي المخلوع في سوريا. بالتالي لا يمكن لأي مراقب عاقل وموضوعي إلا الإقرار بأن "الحزب" كحركة "مقاومة" ذات أبعاد "مقدّسة" كان طوال سنواتٍ الراعي الرسمي والحامي العملي لمنظومة تجارة المخدّرات في لبنان والشرق الأوسط، وما إن ضعفت قدرة "الحزب" على رعاية وحماية الكارتيلات حتى تهاوت الأخيرة كأوراق الخريف، الواحدة تلوى الأخرى: من "أبو سلّة" (علي زعيتر) إلى نوح زعيتر في نهايته. يا لها من صدفة!
ليس "حزب الله" التنظيم "المقاوم" أو "الثوري" الأول في العالم الذي يبني شراكة استراتيجية مع كارتيلات المخدّرات. وعادة ما تكون هذه العلاقة تكاملية، أي أن التنظيم السياسي - العسكري ليس هو من يصنع أو يبيع المخدّرات، بل إنه يبني علاقة تعاقدية مع كارتيلات موجودة أصلًا في المنطقة التي يسيطر عليها، ويؤمّن الحماية العسكرية - الأمنية (وفي حالة لبنان السياسيّة) لهذه الكارتيلات. وبذلك يحقق التنظيم "الثوري" مجموعة أهداف متوازية، تبرز أهميّتها خصوصًا عندما يكون يعاني من نقص في المشروعيّة السياسية والشعبية، كما إنه بحاجة إلى تنويع مصادر التمويل. أولًا، يحيّد تجار المخدّرات من إمكانية الصدام معه، بل "يستوعبهم"، ومعهم بيئاتهم الحاضنة (حتى تجار المخدّرات لهم بيئاتهم الحاضنة – بابلو إسكوبار كان يريد الترشح إلى الرئاسة بعدما كان فاز بمقعد في مجلس النواب). ثانيًا، يستفيد التنظيم من القدرات شبه العسكرية والأمنية للكارتيلات، كما حصل مع مشاركة مجموعات تخصّ نوح زعيتر في الحرب السورية. ثالثًا وأخيرًا، يتشارك التنظيم "الثوري" والكارتيلات أرباح المبيعات التي تحصل في مناطق النفوذ المشتركة، ما يؤمّن مدخولًا إضافيًا ضروريًا في حالات الجفاف التمويلي أو في ظروف الانتفاخ التنظيمي والعسكري. أبرز مثال عالميًا على هكذا حالة هو تنظيم الفارك (FARC) الشيوعي في كولومبيا (اسمه الرسمي قوات الثورة المسلّحة في كولومبيا). بدأ تنظيم الفارك عمله كميليشيا ثورية مؤلفة بمعظمها من المزارعين الشيوعيين في منتصف الستينات، وكانت تسعى للسيطرة على الحكم. مع الوقت، تطوّرت علاقتها بكارتيلات المخدرات، إلى أن أصبحت تجارة الممنوعات أحد أهم مصادر تمويلها. للموضوعية، ليس "حزب الله" ولا الفارك من هواة المخدرات كهدف قائم بحد ذاته، بل إن الضرورات الميليشياوية غير الشرعية تفرض عليهم هكذا تحالفات.
كم كنا على حق. كم كنا على حق حينما أكّدنا أن معظم مصائب لبنان (المستجدة منها على الأقل) تحلّ تلقائيًا ما إن تنتهي حالة "حزب الله" العسكرية والأمنية. ما دخل "حزب الله" بمنع الإصلاح؟ ما دخل "حزب الله" بالفساد؟ ما دخل "حزب الله" بسير عمل الدولة من عدمه؟ وطبعًا الأهم من كل ذلك: ما دخل "حزب الله" بتجارة المخدرات وباروناتها وكارتيلاتها؟ هكذا تهمة تلامس الكفر. فها هو هذا التنظيم "الجهادي" و"المؤمن" و"الثوري" يضحّي بخيرة أبنائه على جبهات القتال، فيما يمنع مناصريه من بيع الكحول في قراهم، فكيف لكل هذه الطهارة أن تكون المانع الوحيد أمام اعتقال كل كبار تجار المخدّرات في لبنان؟ أتانا الجواب شافيًا من البقاع اللبناني. وتحسّن الأمور في كل الملفات الاقتصادية والإصلاحية والمالية والحياتية لا يختلف بتاتًا عن التقدّم المنجز في محاربة تجارة المخدرات. ما إن هزم "حزب الله" في الحرب، حتى رأينا نصف إنجازات في كل الملفات التي كانت عالقة منذ عقدين: تسمية رئيس وزراء إصلاحي بامتياز، وزراء سابقون في السجن بتهم فساد، هيئات ناظمة في كل الوزارات، تعيينات وفق آلية كفاءة في إدارات الدولة، قوانين إصلاحية ذات طابع مالي تقرّ في مجلس النواب، تحسّن استثنائي في مداخيل الجمارك ومنع التهرّب الضريبي، بدء العمل في إنشاء مطار القليعات، عودة اللاجئين من لبنان إلى سوريا (بسبب سقوط نظام الأسد، وهو إحدى نتائج هزيمة "حزب الله"). اللائحة تطول، لكن المبدأ واحد: سلاح "حزب الله" هو الأساس، والتحسن المالي والحياتي، من المخدّرات إلى الفساد، هو نتيجة طبيعيّة وتلقائية لضعف قدرة "الحزب" على فرض إرادته على الدولة اللبنانية. لذا فإن على كل من نظّر بأن لبنان يمكنه محاربة الفساد والانطلاق بالإصلاح من دون هزيمة "الحزب" (أو حتى كما قال البعض بالشراكة معه!)، أن يعتذر من الضرر الذي ألحقه بالمسار السياسي العام في البلد في السنوات الخمس الأخيرة.
يبقى سؤال بديهي: إذا كانت هزيمة "حزب الله" تؤدي بالبلاد إلى واقع أفضل بكثير، لماذا لم يشعر المواطن اللبناني حتى اليوم، خصوصًا على المستوى الاقتصادي والمعيشي، بهذا التحسّن؟ الجواب بسيط: لأن "حزب الله" هُزم لكنه لم يُسحق عسكريًا. وطالما ملف سلاحه لم يحلّ كليًا، يمكن للدولة اللبنانية اعتقال نوح زعيتر، لكنها لا يمكنها الإتيان بملياري دولار للاستثمار الأجنبي في قطاع الطاقة. المعادلة إذًا واضحة. هزيمة "حزب الله" تؤدي إلى انهيار منظومة المخدّرات. أما سحقه كتنظيم مسلّح فيؤدي بدوره إلى كهرباء واستثمارات وسياحة ومصانع وزراعة (شرعية) وفرص عمل ووقف للهجرة. النظرية أُثبتت، لم يبقَ إلا التطبيق!
صالح المشنوق -نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|