لكي لا تكون الأشرفيّة النهاية
في 14 آذار 2005 كانت مسيرة أهالي الأشرفية نحو ساحة الشهداء مسيرة سياسية ردّاً على تظاهرة 8 آذار وللمطالبة بخروج الجيش السوري، لكنّ هذه المسيرة عبّرت أيضاً على مستوى أعمق عن استعدادٍ نفسيّ وسياسي لتجاوز "سياسة الحرب".
أمّا في 17 تشرين 2019 فقد كانت مسيرتهم نحو الساحة نفسها مسيرة اجتماعية بالدرجة الأولى على وقع الانهيار الاقتصادي "المفاجئ"، ولو لم يكن بين المسيرتين تناقض، أي أنّ "17 تشرين" لم تكن ارتداداً عن "14 آذار" أو ردّاً عليها، لا بل إنّ "17 تشرين المسيحية" استعادت تدريجاً شعارات سياسية على غرار "14 آذار".
لكن في نهاية الأمر لم يُضفِ الانهيار الاقتصادي المتفاقم على السياسة في الوسط المسيحي بعداً اجتماعياً، بل أدّى إلى بروز نماذج عصبيّة مكثّفة كتلك التي ظهرت في الأشرفية أخيراً.
والحال فإنّ هذه النماذج التي انتهت إليها "17 تشرين المسيحية" تشكّل ارتداداً مزدوجاً عن "14 آذار" بمعانيها السياسية - الكيانية، وعن "17 تشرين" بمعانيها السياسية - الاجتماعية.
"ضدّ" المسيحيّين
في الواقع لا يمكن القول حتى الآن إنّ صعود هذه المظاهر يشكّل تحوّلاً نهائياً في الوسط المسيحي أو معياراً مطلقاً يمكن البناء عليه لقراءة الخريطة السياسية - الاجتماعية للمسيحيين، لكنّه مع ذلك هامشٌ يتقدّم. ولذا لا تقتصر معاينته على شكل هذه المظاهر وخطابها، فالمهمّ معاينة حجم القابلية الاجتماعية - السياسية لها. وهو ما يحيلنا إلى الواقع السياسي للمسيحيين من حيث تفاعل/تنافر القوى السياسية والاجتماعية على اختلافها مع هذه المظاهر التي بدأت تُسمّى "يميناً متطرّفاً".
بهذا المعنى فإنّ المعطى الأساسي في مقاربة هذه الظواهر ليس ديناميّتها ضدّ الطوائف الأخرى، بل حدود وجودها وحركيّتها في الوسط المسيحي. فتعريفها لا يُلخَّص بتوجُّهها الدفاعي/الهجومي ضدّ "الآخرين"، إذ هي تتوجّه أساساً للمسيحيين و/أو ضدّهم، أي أنّها تستخدم خطابها ضدّ "الآخرين" لتكريس نفسها في البيئة المسيحية.
والحال فإنّ احتمالات الاحتكاكات الطائفية، كما حصل السبت في الأشرفية، تبقى حتّى الآن ضئيلة وهامشيّة، لكن في المقابل يشكّل الفرز الجغرافي الطائفي أو تعميم "المناطق المغلقة" دافعاً قويّاً لهذه التشكيلات العصبية الشعبوية إلى محاولة الاستحواذ على "شرعية" ضمن جغرافيّتها الطائفية، أقلّه كنموذج وكمرجعية قيميّة. فعلى الرغم من هامشيّتها السياسية، تصرّ على تكريس أجندتها القيمية في الفضاء العامّ، كمدخل للحصول على "شرعية" اجتماعية وحتّى سياسية لدى المسيحيين، من دون أن يكون لديها أيّ استعدادات ديمقراطية، لأنّها لا تقوم وتقوى إلا بالضدّ من كلّ مَن يخالفها الرأي سياسياً وقيمياً في الوسط المسيحي.
"مكانة" الأحزاب
لا يتمّ صعود هذه التشكيلات حتّى الآن في إطار صراعي داخل الوسط المسيحي، بل في إطار صراعي رمزي أكثر منه واقعياً مع الطوائف الأخرى، أو أقلّه ما زالت المعارضة وسط المسيحيين لهذه الظواهر خافتة وخجولة، فيما القوى السياسية والاجتماعية تلعب معها على حبلين، وهو ما أظهرته حادثة الأشرفية السبت بغضّ النظر عن مسبّباتها وسياقاتها. فمن ناحية لا تعارض الأحزاب المسيحية ومراكز الثقل الديني هذه التشكيلات لكي لا تظهر بمظهر المتخاذل في "الدفاع" عن المسيحيين والمتبنّي لـ"قيم غريبة"، ومن ناحية ثانية لا تتماهى معها ولا تتبنّاها خشية اتّهامها بالجنوح نحو الراديكالية الطائفية الشعبوية.
لكن بطبيعة الحال يُظهر هذا الالتباس، وإن لم يطرأ ما يوضّحه، استعداداً حزبياً لتبنّي خيارات راديكالية، على قاعدة أنّ الأحزاب المسيحية ذات الجذور اليمينية لا تخشى أو لا تقيم حساباً لصعود قوى على يسارها بل لنموّ قوى على يمينها، وذلك في استعادة لمقولة كريم بقرادوني عن أنّ "بيار الجميل الذي لم تكن تقلقه أيّ معارضة مارونية على يساره كان يتخوّف من كلّ راديكالية على يمينه لئلا تفقده مكانته، وهكذا كانت المنافسة مع كميل شمعون دائمة".
طبعاً لا تشكّل هذه التشكيلات الصاعدة في الأشرفية خطراً على مكانة الأحزاب، وخصوصاً أنّها تتحرّك خارج النظام السياسي. لكنّ هذه الأحزاب نفسها تعطي إشارات، من خلال التباس تعاملها مع هذه التشكيلات، إلى إمكان التواطؤ معها في حال نجحت في إبراز قابلية مجتمعية لخطابها "الأخلاقي" وحتى السياسي.
النزوع الراديكاليّ
ربّما يشكّل صعود هذه التشكيلات في الأشرفية بالذات، الحيّز المديني الأبرز للمسيحيين، دلالة واضحة على المسار المسيحي العامّ منذ الحرب الأهلية. فبعدما كانت الأشرفية المختبر الأهمّ في مرحلة ما قبل الحرب لحسم جدلية الدولة/الطائفة لدى المسيحيين، وبالتحديد داخل أكبر أحزابهم، الكتائب، دفعت الحرب الغالبية العظمى من المسيحيين نحو الراديكالية في مقابل الراديكاليات الطائفية الأخرى وإن على تفاوت فيما بينها. ويتبيّن الآن أنّ المسيحيين لا يزالون قابعين في هذه الراديكالية بأشكال مختلفة أو أنّ في أوساطهم نزوعاً غالباً إليها في ظلّ غياب أجسام سياسية واجتماعية صلبة تعارضها. حتّى إن المجموعات التغييرية التي تُعتبر على "يسار" المسيحيين، وأوصلت نائبتين في دائرة الأشرفية، تلتزم الصمت حيال صعود "اليمين المتطرّف" في المنطقة، مثلها مثل الأحزاب التقليدية.
قد ترجع الانتكاسة بشكل رئيسي إلى عدم نجاح "14 آذار" ولا "17 تشرين" في تجاوز هذه الراديكالية دفعة واحدة أو تدريجاً، فما إن تطلّ أزمة سياسية أو اقتصادية برأسها حتى تعاود هذه الراديكالية الظهور وأقوى ممّا كانت.
المافيا-الميليشيا
لكنّ الأخطر أنّ تَزعزُع تحالف المافيا - الميليشيا على المستوى "العابر للطوائف" منذ 17 تشرين 2019، أدّى إلى إعادة إنتاج تحالف المافيا - الميليشيا داخل كلّ طائفة، وهو ما ظهر جليّاً أخيراً في الأشرفية. فما يدعو إليه بعض المسيحيين من إسقاط الدولة المركزية باعتباره حلّاً للأزمة سيؤدّي، في حال تمّ، إلى استنساخ تجربة تحالف المافيا - الميليشيا على المستوى المركزي في نطاق المستوى اللامركزي، وهو سبب كافٍ للتشكيك في جدوى اللامركزية الموسّعة في ظلّ شروطها الحالية.
فإذا كانت "17 تشرين"، أو بالأحرى الأزمة الاقتصادية، شكّلت فرصة أكبر من "14 آذار" لإعادة تشكيل لبنان اجتماعياً قبل إعادة تشكيله سياسياً، أي فرصة لخلق وعي سياسي جديد تحرّكه ضرورة بناء تقاطعات جدّيّة بين الشرائح الاجتماعية المتضرّرة من الأزمة، فقد انتهت إلى نكوص سياسي تجاوز في دلالاته النكوص الذي انتهت إليه 14 آذار. فاستحالة التغيير "من فوق" الذي جرّبته "14 آذار" تبعته استحالة التغيير "من تحت" الذي جرّبته "17 تشرين"، وهو ما يجعل الوظيفة الرئيسية للسياسة الآن تقليص، إلى أدنى حدّ، النتائج السلبية لاجتماع هاتين الاستحالتين. فهل ينسحب المسيحيون من هذه المهمّة؟ وهل تكون الأشرفية النهاية، نهاية جدليّة الطائفة/الدولة لصالح الطائفة بأقصى صورها الراديكالية؟
إيلي القصيفي - اساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|