١٠٠ مليار دولار لإبقاء الأسد رئيساً
في صدمة الأيام الأولى للزلزال، مرّ بلا انتباه إعلانُ فرانسوا ديلماس، المتحدث باسم الخارجية الفرنسية، عن مساعدة للسوريين بقيمة 12 مليون دولار. الجدير بالانتباه ليست ضآلة المبلغ المعلَن عنه، وإنما حديث السيد ديلماس عن الكرم الأوروبي، إذ أشار في التصريح نفسه إلى أنه منذ عام 2011 موّل الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه مساعدات إنسانية بشكل كبير، أكثر من 27 مليار يورو.
موقع "سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في مصر" كان قد نقل عن سفيرة واشنطن لدى الأمم المتحدة تخصيص رزمة جديدة من المساعدات الإنسانية، في أيار 2022 لمناسبة انعقاد مؤتمر بروكسل السادس حول دعم مستقبل سوريا! موقع السفارة ينوّه كالمعتاد بأن الولايات المتحدة هي أكبر مانح منفرد للمساعدات الإنسانية المقدَّمة للسوريين، وقد بلغت آنذاك 15 مليار دولار.
الأرقام السابقة لا تتضمن مثلاً ما أنفقته ألمانيا على نحو مليون لاجئ سوري على أراضيها، حيث نعلم أن كلفة استضافة اللاجئ إلى أن يصبح مؤهلاً للعمل، إذا وصل هذه المرحلة وكان في السنّ المناسب لها، هذه الكلفة تقدَّر بعشرات ألوف الدولارات. لو افترضنا أن كلفة كل فرد من اللاجئين حتى الآن هي 20 ألف يورو، فالكلفة النهائية لمليون لاجئ هي 20 مليار يورو، ما يرفع التكاليف التي دفعها الاتحاد الأوروبي ودوله منفردة إلى أكثر من 50 مليار يورو.
لا يُعتدّ بمصداقية الأرقام التي أعلنها سياسيون لبنانيون أو أتراك عن أعباء اللاجئين السوريين في البلدين، خاصة لأنها أتت في سياق مزايدات سياسية، ولم تصدر إحصائيات موثوقة عن مؤسسات مستقلة في أيّ من البلدين. بالتأكيد هناك أعباء لمئات ألوف اللاجئين السوريين في لبنان، ولثلاثة ملايين ونصف من نظرائهم في تركيا، وبالطبع للاجئين في الأردن. الرقم القابل للتصديق "لا لثقةٍ بأصحابه" هو منح طهران اعتمادات لبشار الأسد بقيمة ملياري دولار سنوياً، بدءاً من عام 2012، ليُضاف ما لا يقل عن عشرين مليار دولار على التكاليف غير العسكرية المدفوعة من هنا وهناك، وبما يرفع الكلفة التقديرية للحصيلة إلى 85 مليار دولار. لن يكون من المبالغة بعدها إذا قدّرنا قيمة المساعدات الإنسانية، متضمنة الخليجية وما أنفقته دول الجوار بمبلغ 100 مليار دولار؛ الأقرب إلى الصواب أننا نضع رقماً متواضعاً إزاء الإنفاق الفعلي.
مع التأكيد على أنه رقم تقريبي، وفي الحدود الدنيا، تكفي مقارنة سريعة بينه وبين انكشاف البؤس السوري، على الأقل منذ سنة حتى الآن. في هذا الاستعراض المختصر لن نخوض في مقدار ما تنفقه البيروقراطية الدولية، ونسبة ما يصل منه إلى المستحقين، ولن نخوض في السطو على المساعدات من قبل سلطات الأمر الواقع وفي مقدمها سلطة الأسد. نفترض أن حكومات الدول المانحة على دراية بذلك كله أكثر منا، وأنها راضية بحيث لم تتخذ إجراءات جادة للتقليل من "سوء" الإنفاق.
في المقابل من ذلك المبلغ لدينا قرابة أربعة ملايين سوري، في مناطق النفوذ التركي، معظمهم يعيش تحت رحمة المساعدات الأممية عبر الحدود، وهي مهدَّدة كل ستة شهور بالفيتو الروسي في مجلس الأمن. بؤس أحوالهم سيزداد انكشافاً بعد الزلزال، ما لم يكن هناك المزيد من المساعدات الطارئة، أي المزيد من الإنفاق الدولي. وضع الشريحة الأعظم من السوريين تحت حكم الأسد ليس أفضل، وباسثناء ازدهار تجارة الكبتاغون التي يذهب ريعها إلى جيوب القلّة المسيطرة يمكن الحديث عن انهيار اقتصادي ومالي شامل، وعن حالة من العطالة الإنتاجية العامة يصبح بعدها نافلاً الحديث عن تدني الدخل، أو وقوع السواد الأعظم تحت خط الجوع.
سرت مؤخراً أقاويل عن قيام سلطة الأسد بإدراج مناطق على أنها متضررة بالزلزال، من أجل الحصول على مساعدات دولية، بينما هي في الأصل متضررة بقصف قواته أو قوات حلفائه. سنهمل ما قيل عن هدف طمس الجرائم بإلقائها على الزلزال، فالجرائم الموثَّقة لدى جهات دولية تفوق ذلك بمراحل. بل سنهمل حتى ما إذا كان الأسد يسعى إلى استثمار الزلزال على هذا النحو، ففي السياق الحالي هناك مناطق متضررة بالقصف وأخرى بالزلزال، والأسد وحليفه الروسي يطالبان المجتمع الدولي بإعادة الإعمار قبل حدوث الكارثة الأخيرة.
وكما هو معلوم يربط المجتمع الدولي إعادة الإعمار بتسوية سياسية لا يضغط من أجلها، ولا تبدو قريبة وفق المعطيات الحالية. كانت منظمات دولية قبل سنوات قد قدّرت كلفة إعادة الإعمار بحوالى 500 مليار دولار، وهو رقم تقادم رغم تراجع العمليات العسكرية في السنوات الخمس الأخيرة. واحد من أسباب زيادة الكلفة هو الاهتلاك الاعتيادي في الأصول والمنشآت التي لم تُجرَ لها الصيانة الروتينية، يُضاف إليه تسارع الاهتلاك بسبب غياب الصيانة ما يجعل بعض المنشآت "أو الآلات والتجهيزات" خارج الخدمة قبل انقضاء عمرها التقديري. هذه كلفة تزيد أعباء إعادة الإعمار على الدول المانحة، وقسم كبير منها يزيد أعباء ما يُسمى مشاريع التعافي المبكر.
لا أرقام عن الكلفة العسكرية للحرب "أو الحروب" في سوريا، لكن نتوقع أن تكون الولايات المتحدة منفردة قد أنفقت مليارات الدولارات في الحرب على داعش؛ يُذكر أن التكلفة كانت هي ذريعة الرئيس السابق ترامب من أجل الانسحاب من سوريا. نشير إلى هذا الاستثناء من باقي التكاليف العسكرية، تحديداً مما دفعته طهران وموسكو بهدف واضح ومعلن هو الإبقاء على بشار في السلطة، ونهمل في الإطار نفسه تكاليف العمليات العسكرية التركية ضد قسد، من أجل التركيز عما دفعه وسيدفعه الغرب، بالشراكة مع دول الخليج التي لم تعد استجاباتها للمطالب الغربية مضمونة كالسابق.
لدينا مبالغ فلكية أُنفق جزء منها، والجزء الآخر يُفترض إنفاقه لاحقاً، وهي فلكية بكافة المقاييس العالمية، لا بمقياس الدول الفقيرة فقط. قسم معتبر منها مُنح وسيُمنح من جيوب دافعي الضرائب في الغرب، وما يثير الدهشة ألا يُطرَح السؤال عن العائد أو الجدوى من هذا الإنفاق، خارج دائرة الذين يطرحونه ذريعة للانسحاب والتخلي عن المنطقة. كان يمكن تفادي هدر نصف هذه المبالغ "على الأقل" بدعم دولي للتغيير ومن ثم الاستقرار في سوريا، بدل أن تُنفَق على الرغبة الدولية في عدم التغيير. هذه المبالغ الطائلة تستحق أن يسأل أصحابها من دافعي الضرائب عمّا إذا كانت صُرفت في الوجهة الصحيحة، ولم يكن هناك خيار أوفر وأكثر استدامة؟ إذا كان من متذاكٍ سيقول: وهل المعارضة تستحق؟ نجيب: نحن نتحدث عن السوريون بوصفهم ككل البشر، وخارج الشعارات والمزايدات، يستحقون على الأقل ألا يحدث هذا باسم مساعدتهم.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|