علاقات أوروبا بأميركا في ميزان ماكرون الجديد
ضجت وسائل الاعلام العالمية في الايام الأخيرة بالتصاريح التي اطلقها الرئيس الفرنسي امانويل ماكرون غداة عودته من قمة جمعته مع الزعيم الصيني تش جينيبينغ مؤخرا في بكين اثناء زيارة دولة قام بها الى الصين .
الزيارة جاءت في توقيت هام حيث الأجواء المحلية والعالمية متوترة، مع إعلان موسكو نشر أسلحة نووية في بيلاروسيا، وتراجع مخزون الأسلحة في دول بأوروبا، وإعلان موسكو وبكين بزوع نظام عالمي متعدد الأقطاب.
الا انه والى جانب التوقيت اكتسبت الزيارة أهميتها باصطحاب الرئيس الفرنسي معه رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين لاكساب الزيارة طابعا وابعادا أوروبية وليس فقط فرنسية وهذا ما قصده الرئيس ماكرون حين قال في بروكسل اثناء استعداده لزيارة الصين من انه اقترح على فون دير لاين أن ترافقه إلى الصين ليكون الحديث "بصوت موحد".
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استبق الزيارة الفرنسية الأوروبية الى بكين باعلانه قبل أيام من الزيارة أن بلاده أرسلت 10 مقاتلات إلى بيلاروسيا (حليفته المجاورة له ولأوكرانيا) تستطيع حمل أسلحة نووية تكتيكية وذلك ردا على قرار بريطاني بتزويد أوكرانيا بقذائف خارقة للدروع تحتوي على اليورانيوم المنضب الامر الذي رفضه الناتورفضا قاطعا .
والمعلوم ان دول في وارويا تعاني من من نقص مخزون الأسلحة، مثل راجمات الصواريخ، نتيجة شحنات الأسلحة الكثيفة التي أرسلت الى أوكرانيا بشكل غير مسبوق , في وقت تبذل ألمانيا جهدا كبيرا لتوفير الدبابات المطلوبة، بالتزامن مع اعلان تشيك أعن عجزها في تقديم مساعدة جديدة لكييف نتيجة النقص الحاد في مستودعاتها العسكرية.
اثناء زيارة الرئيس الصيني الى روسيا مؤخرا , صدر البيان الشهير من الثنائي الصيني الروسي تضمن اطلاق إعلان "ولادة عصر جديد متعدد الأقطاب" يقود البلدان الى التغييرات الحاصلة فيه الامر الذي يعني في المفهوم الاستراتيجي والجيو سياسي انتقال نقاط الاهتمام وخلط أوراق التحالفات والاحلاف الدولية السابقة باتجاه مشهدية عالمية بدأت تلد من رحم الصراعات والتوترات المتصاعدة في العالم .
من هنا فان أوروبا في وضع استراتيجي يجبرها على التفكير بنفسها أولا وبكيفية حفظ مقعدها وسط الحسابات والتحالفات الجديدة لتحافظ على موقعها ودورها في التركيبة الجديدة للنظام العالمي العتيد .
من هنا فان زيارة الرئيس ماكرون لبكين انعكاس حتمي لهذه المتغيرات:
فاوروبا وبغض النظر عن مواجهتها القوية لروسيا في حرب أوكرانيا تعاني من "مشكلات اقتصادية وغلاء بالمعيشة نتيجة ههذ الحرب في وقت يبحث الاتحاد الأوروبي عن تنشيط اقتصاده، ويرى أن الصين تصلح اكثر من روسيا لهذا التنشيط خاصة وأن بكين خارج أي عقوبات غربية.
وأيضا ومن ناحية النظرة الجيو سياسية تكونت قناعة لدى الأوروبيين في الأشهر الماضية من ان الولايات المتحدة لم تعد وحدها من يتحكم بكافة مفاتيح العالم بعد بزوغ منافسين جديدين قويين ومتوقعين هما الصين وروسيا ما من شأنه تحويل النظام العالمي الى نظام متعدد الأقطاب.
من هنا فان أوروبا ومن خلال فرنسا بالطليعة بدأت تسعى لتأكيد الوجود في هذا النظام العالمي الجديد كجسر عبور وتواصل بين الشرق والغرب .
كما ان أوروبا التي انغمست في مواجهة روسيا في أوكرانيا قررت السعي لتوطيد علاقاتها بالصين للتخفيف من حدة توثيق العلاقات بين بكين وموسكو، والتي ترجمتها الاتفاقيات الموقعة بين جين بينغ وبوتين في موسكو مؤخرا لذلك فان أوروبا تسعى ليس فقط للانفتاح السياسي والاقتصادي مع الصين بل وأيضا الى التخفيف من قوة دعم بكين لموسكو في سياساتها تجاه الغرب لكن يبقى ان السياسات الأوروبية تجاه الصين تتميز بالمصالح الكبيرة المتبادلة وهذا ما يفيد الصين والاتحاد الأوروبي بالتأكيد .
زيارة الرئيس ماكرون اذا الى الصين مؤخرا جاءت في سياق استكشاف الدور الأوروبي الجديد في هذا العصر العالمي الجديد الذي بدأ يتظهر شيئا فشيئا وان كان لا يزال في خطواته الأولى .
أوروبا ترى ومن خلالها الرئيس الفرنسي ان ثمة تحركات دولية جديدة تجري في اتجاه إعادة التوازن في المصالح نتيجة تشكل التعددية القطبية العالمية وقد اثبت نجاح الوساطة الصينية بين كل من المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في ايران قدرة بكين على لعب دور إيجابي كبير في بناء نظام عالمي سلمي ومتجه نحة التنمية والنمو والاقتصاد . من هنا كان توقيت الزيارة الفرنسية أيضا بعد نجاح الوساطة الصينية بين السعودية وإيران.
طبعا فرنسا ليست بحاجة لان تلعب أي دور مع الداخل الأوروبي لتأكيد قيادتها الريادية لاوروبا ولذلك فان دول الاتحاد توجه دائما بوصلتها بالاتجاه الذي تحدده باريس أحيانا بالتوافق مع برلين واحيانا بصورة منفردة ولكن مع امتثال الجميع للتوجهات المرسومة , وحاليا تلك التوجهات تشير الى الصين.
كما ان الزيارة هدفت الى معرفة الموقف الصيني حول الحرب في أوكرانيا ومحاولة "تحييد الصين" بعد تصريحات روسية بشأن الأسلحة النووية فباريس بروكسل ارادا نقل رسالة واضحة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بان حليفه الصيني الذي يتكل عليه مرتبط بمصالح حيوية كبيرة مع الاتحاد الأوروبي وبالتالي فان الندية بين الصين وأوروبا لا تسمح للصين بمواجهة أوروبا ولا تسمح لاوروبا بالتراجع عن سياستها تجاه أوكرانيا .
كل هذا في كف وتصاريح الرئيس ماكرون لدى عودته من القمة الصينية الفرنسية الأوروبية في كف أخر : فالرئيس الفرنسي افرج في الطائرة التي اقلته على خط العودة من بكين عن مكنونات ليس فرنسا بل الاتحاد الأوروبي برمته , وعبر بصوت عال بعد سلسلة من الاختبارات الصعبة والمؤلمة مع الحليف الأميركي الأكبر عن مآخذ وتحفظات دول الاتحاد حيال سياسات واشنطن تجاه الأوروبيين أولا وتجاه ملف الحرب في أوكرانيا .
على أوروبا ألا تصبح تابعة للولايات المتحدة : هذا التصريح الخطير والهام اختصر بصورة جلية وواضحة المستخلصات التي خرج بها الاتحاد الأوربي من تجربة الحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة الدولية التي تسببت بها .
الرئيس ماكرون ذهب ابعد من ذلك اذ دعى الى مقاومة أوروبية لمنع تحول الاتحاد الى تابع للولايات المتحدة الأميركية وفي ذهنه ان واشنطن قد يناسبها في مكان ما اضعاف أوروبا لاحكام سيطرتها عليها بعد خروجها منهكة من حرب أوكرانيا والأزمات الاجتماعية والطاقوية كما يناسبها استجداء الطاقة والغاز لاوروبا منها وهي التي ( أي واشنطن ) لم تظهر أية رحمة للاوروبيين عندما باعتهم برميل النفط الواحد بأربعة اضعاف قيمته كما كان سبق للرئيس ماكرون نفسه ان احتج على ذلك علنيا .
الرئيس ماكرون بات بعتبر ان على أوروبا أن تقلص ارتباطها بالولايات المتحدة والا تنجر إلى مواجهة بين الولايات المتحدة والصين بشأن تايوان , وفي ذلك انعطافة فرنسية جديدة خاصة حين ندرك ان فرنسا الى جانب بريطانيا هما القوتين النوويتين الوحيدتين الجاهزتين في البحار وان فرنسا وحدها تملك قواعد عسكرية فثابتة في شرق اسيا يعتمد عليها الناتو والأميركيين في كافة عملياتهم .
فتايوان كملف ازمة ليس في دائرة اهتمامات الأوروبيين المنشغلين باولويات اهم تمس امنهم وسلامتهم واقتصادهم مباشرة لان النار مندلعة في داخل المنزل الأوروبي بعد طول رخاء واسترخاء منذ سقوط حائط برلين وسقوط الاتحاد السوفياتي .
فاين مصلحة أوروبا في تايوان ؟؟؟
والانعطافة الثانية التي جاءت كنتيجة للقمة الصينية – الفرنسية , سجلت في موضوع التعامل بالدولار الأميركي خارج الحدود الإقليمية حيث رأى الرئيس الفرنسي أن على دول الاتحاد الأوروبي تقليل اعتمادها على الدولار الأميركي خارج الحدود الإقليمية فيما يبدو من خلال هذا التصريح ان فرنسا ومعها دول الاتحاد قرروا انتهاج سياسة الواقعية السياسية الاقتصادية التي فرضتها المتغيرات الدولية الجديدة والدخول القوي للصين الى الأسواق الخليجية والعربية والدولية من خاصة من بوابة الرياض , تلك الواقعية التي تفترض تعامل الدول مع بعضها كلا تبعا لمصالحها . فعندما تقرر بكين استيراد الطاقة من شركة توتال الفرنسية والسداد باليوان الصيني بدل الدولار لا يمكن لفرنسا ان ترفض وتتمسك بالدولار الأميركي كي لا تخسر من جهة السوق الصيني الضخم ومن جهة أخرى كي لا تقدم خدمات مجانية لواشنطن في وقت الأخيرة اعتادت على استخدام المنصات والحاجات والتحالفات الأوروبية في خدمة مصالحها الذاتية واخر تجربة كان سعر النفط الأميركي الفائق الكلفة لدول الاتحاد يوم احتاجت هذه الدول للحليف الأكبر .
من هنا فان الغاية تبرر الوسيلة وفرنسا تريد استعادة الدور الأوروبي المستقل والسيادي في علاقاتها الدولية والتي يجعلها القوة العظمى الثالثة .
افضل موجز لنتائج زيارة ماكرون للصين والتصاريح التي أعقبت تلك الزيارة ما قالته صحيفة "نيويورك تايمز" من ان ما صدر عن ماكرون في هذه الزيارة بمثابة لعب "ورقة ديغول"، في إشارة إلى نهج الرئيس الفرنسي الراحل، شارل ديغول، الذي كان حريصا على تحقيق سيادة باريس والنأي بها عن التبعية للولايات المتحدة , لكن هذه المرة نضيف مع فارق أساسي ان النأي عن التبعية للولايات المتحدة الأميركية بات أولوية أوروبية وليس فقط فرنسية .
جورج أبو صعب -الكلمة أونلاين
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|