بسبب "الأحكام العرفية"... البرلمان يعزل رئيس كوريا الجنوبية!
مروان خير الدين وثقافة المصارف اللبنانية
إن كانت للمصارف والمصرفيين في لبنان، ثقافة، فمن أي نوع هي؟ كيف تغيرت منذ ما قبل سنوات الأزمة وانتفاضة 17 تشرين 2019 حتى الآن؟ وهل هو تغيير فعلاً، أم أن المأساة المالية الراهنة كشفت وعرّت ما كان في الأصل واقعاً غفلنا عنه جميعاً؟
الثقافة بمعنيَيها. كإبداع وفنون. وأيضاً كعقلية تحكم تسيير الأعمال وسِير الشخصيات المصرفية بحضورها في الشأن العام وطموحاتها الاجتماعية والسياسية. لطالما ارتبطت بهذا القطاع. المؤسسات التي تجتمع فيها سطوة المال والنفوذ السياسي بدلالة تحالفهما المعلوم الآن أكثر من أي وقت مضى، وأسماء السياسيين وزعماء الطوائف والمحسوبين عليهم التي نراها في السواد الأعظم من مجالس إدارات البنوك اللبناني.
مؤخراً ضُربنا بصورة أيقونية جديدة. رئيس مجلس إدارة ومدير عام بنك "الموارد" والوزير السابق، مروان خير الدين، في مطار بيروت الدولي، قادماً من فرنسا حيث ما زال مُلاحقاً قضائياً بموجب لائحة اتهام رسميّة، تشمل "تشكيل عصابة إجراميّة، بهدف تسهيل اختلاس المال العام وتبييض الأموال وإساءة الأمانة"، وتمتع، مع ذلك، باستقبال "سياسي وشعبي" وكأنه العائد المظفّر من معركة نبيلة.. هذه الصورة تختصر ثقافة أصبح اللبنانيون متآلفين معها: الاحتماء -وقت الشدة- بالطائفة والعصبية العائلية والمناطقية، التعاضد والتضامن على طريقة المافيا، عصيان العدالة والقضاء والشفافية، وتحويل التحايل على المحاسبة إلى انتصار.
هذه هي العقلية التي، على الأرجح، لم تستجدّ بعد الأزمة، بل كانت هي الثقافة المستترة طوال الوقت. وربما ليس من الدقة القول إنها حصراً ثقافة المنظومة الحاكمة منذ أكثر من 30 عاماً، دون عموم المجتمع. إذ لا يستمر نظام بثقافته من دون أن تكون جذوره ضاربة عميقاً في الأرض والنفوس التي يتسيّد عليها، بصرف النظر عما إذا كان النظام هو البيضة، والمجتمع هو الدجاجة، أم العكس. لكن الأكيد، رغم العولمة والتشابهات الكثيرة بين الاقتصادات ذات الطابع الحر إلى هذا الحد أو ذاك، أن القطاعات المصرفية حول العالم ليست نسخاً كربونية من بعضها البعض بالمعنى الثقافي وحتى كمؤسسات واستابلشمنت.
في رسالة ماجستير قدمت في جامعة MIT الأميركية قبل سنوات، يظهر الباحث أن الثقافة المحلية ترخي بظلال لا يستهان بتأثيرها في المصارف، حتى ولو كانت كلها تنتمي إلى منظومات اقتصادية من مصاف "العالم الأول". وقد دَرَس الصياغات "المصرفية" لمفاهيم من نوع الفردانية/الجماعية، والمسافة من السلطة، وحس المجازفة، والتطلعات قصيرة/طويلة المدى، مُقارِناً بين الولايات المتحدة الأميركية، ألمانيا، واليابان. وخلُص إلى أن المصارف الأميركية تُعلي المصالح الفردية على الجماعية، هيكليتها وأفرادها أقل قبولاً لسلُطات موزعة بمنطق غير مُنصف، وهي أكثر ميلاً في مشاريعها وإدارتها إلى السير في مجازفات، وأكثر عملاً بأجندات المدى القصير من الطويل. في حين أن المصارف اليابانية، بالعكس تماماً، تضع إشارات "صحّ" في كل الخانات المقابلة. وهو ما يعزوه الباحث، من بين أسباب عديدة، إلى "ثقافة الساموراي" والإقطاع القديمة، حيث يتصدّر تراصّ العائلة سلوكيات حفظ النوع/الذات في مواجهة أخطار طبيعية واجتماعية ووجودية، كما للجماعة الأولوية في البقاء دون الأفراد، وعلى رأس "القبيلة" قائد لا بد أن يحظى بالطاعة والثقة الكاملَين لينجز هذا التكليف السامي.
واستدلالاً بالبحث هذا، يُفهم الكثير عن المصارف اللبنانية، ليس فقط في الواقع الراهن، بل أيضاً بالنظر إلى الماضي القريب-البعيد قبل الأزمة. ما يحيلنا، بعد ثقافة قروض الاستهلاك والامتلاك المُكابِرة على الملاءة الحقيقية (للمصارف والكثير من المودعين)، إلى الشق الإبداعي الذي شكّل جزءاً معتبراً من عموم الهالة اللبنانية تاريخياً.
فإن كانت صُور تكسير المصارف، وطلب الوديعة تحت تهديد "السلاح" واحتجازالرهائن، والطوابير أمام الصرّافات الآلية، قد استحوذت على المشهد خلال السنوات الأربع الماضية، فلا بدّ أن كثيرين يتذكرون تلك الأبنية والمقرات الأنيقة للمصارف، والتي كان بعضها أشبه بغاليريهات دائمة مزدانة بأثمن أعمال الفن التشكيلي، إضافة إلى شَراكات الدعم والتمويل بين المصارف والعديد من المؤسسات والجمعيات الفنية.
فمَن ينسى تلك المنحوتة المبهرة بارتفاع ستة أمتار، للفنان الفرنسي جان دوبوفيه، في مدخل "بنك عودة" بوسط بيروت؟ كم كانت قيمتها؟ يكفي أن نعرف أن منحوتة أخرى للفنان، بطول مترين، بيعت في مزاد كريستيز العام 2011، بمليون و200 ألف دولار. والبنك نفسه كان مليئاً بمجموعة ثمينة من أعمال فرنسيين مرموقين آخرين، ولبنانيين أيضاً مثل بول واكيم وجان مارك نحاس وشفيق عبود، ناهيك عن مجموعة فنية أوروبية في مقر البنك بسويسرا من القرنين السادس عشر والسابع عشر، ومجموعة فسيفساء في "فيللا عودة" بالأشرفية-بيروت.
ومثل "عودة"، فعل "بنك ميد" مُركّزاً بدوره على الفن اللبناني الحديث، لا سيما مجموعة خاصة للفنان الراحل بول غيراغوسيان. وفي مقابلة مع مجلة "The Executive"، قالت المسؤولة الإعلامية: "عندما بدأنا الاستثمار في غيراغوسيان (أواخر عقد التسعينات)، أردنا منع القطع من مغادرة البلاد إذ كان الكثير من الناس يشترون أعماله وفي ذلك الوقت، وكانت البنوك هي الوحيدة القادرة على تحمل تكاليف الحفاظ على التراث الوطني في البلاد".
والمصارف، التي كان بعضها قد افتتح قاعات عرض دائمة في مقراته أو أقام معارض أو موّل مراكز فنية، دعمت أيضاً "معرض بيروت للفن" منذ انطلاقته العام 2010، لا سيما الراعي الأكبر "بنك ميد". فحققت دورة 2012، مثلاً، مبيعات بأكثر من مليونَي دولار في المبيعات، و11 ألف زائر، وعُقدت شراكات بين المعرض ومصارف، بينها "بنك بيبلوس" الذي أعلن وقتها عن اهتمامه بالتخصص في رعاية فن التصوير.
ماذا حلّ بذلك الكمّ الهائل من الأعمال الفنية الذي قامت إزاءه المصارف بدورَي المتاحف المنقرضة وجامِعي الفن على حد سواء؟ والنهضة الفنية اللبنانية، قبل الأزمة، بفعل هذه الشراكات والاستثمارات والتمويلات، ماذا تبقى منها؟ أسئلة ربما تبقى معلقة لفترة من الزمن. لكن الإجابة على سؤال: لماذا لم تحظَ هذه النهضة بشيء من الاستدامة؟.. فلعلها واضحة: لقد كان "الاستثمار" في الفن أيضاً على طريقة "مخطط بونزي". وبذلك، لا بد أن تحوم أسئلة تبييض الأموال والتهريب حول تلك المجموعات الفنية المصرفية، وهي إرث وطني هائل اختفى فجأة، مثل الأموال (إلى أقبية ما؟ إلى خارج البلاد؟)، على غرار غيوم الشكّ الملبّدة حول ثروات سياسيين ورجال أعمال، ومآلات الودائع ومجريات تعاملات مصرفية بالملايين.
و... سؤال أخير: مَن هو "ساموراي" العصبة المصرفية اليوم؟ حاكم مصرف لبنان، الطبقة السياسية وطوائفها، أم ثلة المصرفيين وجمعيتهم؟ هنا الإجابة، سرّ ذائع، ومربَط الحل الذي لا يبدو آتياً في وقت قريب.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|