الصحافة

خطة الكهرباء والفيول العراقي

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

تترنح خطة الكهرباء الاخيرة في وقتٍ لا يزال لبنان يتخبط في أزمة اقتصادية سبق أن وصفها البنك الدولي في تقرير له في العام 2020 بأنها الاسوأ منذ منتصف القرن التاسع عشر على مستوى العالم، زاد من مضاعفاتها تزامنها مع جائحة كورونا ووسّع من تداعياتها لتطال معظم القطاعات وتتسبب بانكماش الأنشطة الانتاجية وانخفاض الناتج الداخلي الى مستويات غير مسبوقة. وتشير تقديرات البنك الدولي إلى انخفاض إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 2.6% في عام 2022، ليصل إجمالي الانكماش الاقتصادي منذ عام 2018 إلى 39.9% من إجمالي الناتج المحلي.

وشكّل عجز مؤسسات الدولة عن القيام بمهامها لا سيما المؤسسات الخدماتية منها، أحد أخطر تداعيات الازمة الاقتصادية بعدما بدأ مسلسل تقهقر إيرادات الدولة من الرسوم والضرائب التي تراجعت جبايتها الى أدنى مستوياتها. وسرّع انهيار قيمة العملة الوطنية في خسارة رواتب موظفي القطاع العام لقيمتها وكذلك هو حال إيرادات الدولة، الامر الذي عرقل سير الإدارات وخفّض من انتاجيتها.


تراجع الإيرادات وانخفاض قيمتها والشح بالعملات الاجنبية حال دون توافر التمويل اللازم لتسيير مرافق الدولة الخدماتية ولا سيما الاستمرار في شراء الفيول لمحطات توليد الطاقة الكهربائية من جهة ودفع مستحقات البواخر التركية من جهة ثانية، ما ادخل البلاد في عتمة شبه كاملة تزامنت مع تخفيض أصحاب المولدات الخاصة ساعات التغذية بسبب ارتفاع اسعار المازوت والتهريب الى سوريا.


إلا أن التخبط في قطاع الطاقة الكهربائية سبق الازمة المالية والاقتصادية لا بل شكل أحد أسبابها، وبعدما كان طموح القيّمين على هذا القطاع الوصول الى 24 ساعة تغذية، انتهى الامر الى الاكتفاء باستئجار البواخر التركية للاستمرار في الحد الأدنى من ساعات التغذية حتى توقف هذه البواخر عن الإنتاج ومغادرتها في نهاية العام 2021.

وبالرغم من كثرة الخطط والعناوين البراقة لم يدم تشغيل المعامل الحرارية على الغاز الطبيعي الا بضعة أشهر في العام 2009، وأهملت المعامل الكهرومائية حتى انخفض انتاجها الى أقل من النصف فيما توقف بعضها الآخر عن العمل (معمل حراش ومعمل رشميا على سبيل المثال، وانخفض انتاج بعضها الآخر الى أقل من النصف) ما عرقل التوصل الى حلول مستدامة للطاقة الكهربائية.


وبدلاً من تنفيذ خطة العمل الوطنية لكفاءة الطاقة للعام 2010 لجهة زيادة حصة الطاقة المتجددة من اجمالي انتاج الطاقة الى 12% مع حلول العام 2020 و30 % في العام 2030، لم تتجاوز هذه الحصة الــ 7,8 % عشية انفجار الازمة في العام 2019. فيما افشلت المناكفات السياسية والإصرار على الابقاء على سعر الكيلوواط ساعة دون تعديل حتى زيادة الإنتاج، الخطط المتلاحقة والتي غلبت عليها الأهداف السياسية والشخصية.


وكان يُمكن لتصحيح سعر الكيلوواط ساعة الى مستوى يتناسب مع تكلفته الفعلية أنّ يُحقق التوازن المالي لكهرباء لبنان من ناحية، وأن يحدّ من تنامي الدين العام الذي تسبب به عجز المؤسسة من ناحية ثانية. كما أن تسعير الكيلوواط ساعة وفقاً للتكلفة الفعلية كان يُمكن أن يُحفز المستهلكين على التحول الى الطاقة المتجددة والنظيفة، الا أن انعدام الحوكمة الرشيدة لقطاع الطاقة الكهربائية جعلت من المعامل الحرارية حلاً وحيداً للمشكلة في نظر القيمين على القطاع.

وأدّى الاستثمار السياسي في انجازات قطاع الكهرباء وتصويرها على انها انجاز لطرف سياسي بعينه، الى جعل القطاع منصة لتصفية الحسابات السياسية وعرقل عمل الإدارة وحال دون قيام الحوكمة الرشيدة. خاصة وأنّه كان لانعدام الحوكمة الرشيدة الدور الاساسي في تعثر قطاع الطاقة الكهربائية والفشل في معالجة المشاكل التي اعترضته، والامتناع عن مواجهة عدم الكفاءة التشغيلية ومواجهة الفساد المستشري في القطاع من صفقات الفيول المغشوش الى صفقة البواخر وغيرهما.


في المقابل، دفع انخفاض ساعات التغذية وارتفاع فاتورة المولدات الخاصة، المستهلكين الى اللجوء الى الطاقة الشمسية التي ارتفعت وتيرة انتاج الكهرباء منها بمعدل 100 ميغاواط بين عامي 2020 و2021، أي ما يُعادل الحجم الذي تم استثماره على مدى العشرة أعوام المنصرمة وبالتحديد بين عامي 2010 و2020. ومن المرجح أنه تم إضافة ما يُقارب 250 ميغاواط في العام 2022 على القدرة السابقة وربما أكثر، خاصةً بعد رفع الأسعار والرسوم الجديدة لمؤسسة كهرباء لبنان.


وتواجه خطة الكهرباء التي وضعتها وزارة الطاقة مؤخراً وباشرت في تنفيذها، تحديات تهدد إمكانية الاستمرار فيها والانتقال الى المراحل اللاحقة منها لجهة زيادة ساعات التغذية. وتبدأ هذه التحديات من الجباية وصعوباتها مروراً بفواتير الاستهلاك وعلاقتها بسعر دولار صيرفة بعد إضافة 20% على هذا السعر، ولا تنتهي مع تأخر مصرف لبنان في تحويل المبالغ التي تجبيها المؤسسة بالليرة الى الدولار الاميركي واختلاف سعره بين تاريخ إصدار الفواتير وتاريخ الجباية.


في المقابل، ترتفع شكوى المواطنين من الرسوم الثابتة التي تشملها فاتورة مؤسسة كهرباء لبنان لناحية إيجار العدادات وبشكل خاص رسم إعادة التأهيل الذي انتفت اسباب تحصيله، والفارق الكبير في أسعار الشطور حيث يقفز سعر الشطر الثاني الى ما يزيد عن مرة ونصف (27 سنت) عن سعر الشطر الأول (10 سنت) الى غيرها من الأسباب ويجعل تكلفتها قريبة من كلفة اشتراكات المولدات الخاصة.

مع العلم أنّ نجاح الخطة المشار اليها أعلاه، يُشكل امراً حيوياً ليس بالنسبة للمستهلكين الذين لا قدرة لهم على تأمين مصادر بديلة لكهرباء الدولة وحسب، بل هو امرٌ حيوي لكل مستهلك للطاقة الكهربائية سواء الافراد أو المؤسسات وخاصة المصانع. سيما وأنّ الطاقة المتجددة هي طاقة متقطعة ولا بد من توفير مصادر دائمة إضافية لدعم استمرارية الاستهلاك، خاصةً وأنّ محطات توليد الطاقة الكهربائية لا زالت قادرة على الإنتاج في المدى المنظور ويؤمل ان يتم تزويدها بالنفط والغاز المستخرج من تحت المياه اللبنانية في وقتٍ ليس ببعيد.


وينم مسعى وزارة الطاقة ومن ورائها حكومة تصريف الاعمال، لإعادة النظر في الأسعار المعتمدة عن بادرة إيجابية لا بل متقدمة، اهم ما فيها مراجعة الإدارة للقرارات التي سبق واتخذتها لتتلاءم مع الواقع الجديد وخاصة تراجع أسعار النفط. وكذلك التجاوب مع مطالب المستهلكين بإعادة النظر بالرسوم الثابتة إن لم يكن إلغائها لا سيما رسم إعادة التأهيل، والذي يُنظر اليه على انه لتعويض المبالغ المستحقة لمؤسسة كهرباء لبنان على الذين يمتنعون عن الدفع.

ولما كانت العدالة تقتضي ألا يُكلف المشترك بأكثر مما يستحق عليه، مثلما تقتضي أنّ لا يستفيد مشترك من خدمة يمتنع عن تسديد تكلفتها، وجب أن تتحاشى الخطة الجديدة كافة الإجراءات التي تؤدي الى تحميل المشتركين أعباء مالية لا قُدرة لهم على تحملها. وإذا كان لا بد من إنجاح الخطة وتأمين استمراريتها فليكن من خلال اعتماد العدالة في التسعير والتوزيع ومن خلال الشفافية في الإدارة والمحاسبة. ويجب أن تُشكل الخطة الحالية لوزارة الطاقة بداية جديدة لطريقة تأمين الادارات العامة لاستمرارية خدماتها، بعيداً عن تحميل الخزينة العامة أعباء مالية لا قدرة لها على تأمينها.

وتتزامن خطة الكهرباء مع مبادرة الحكومة العراقية بالموافقة على تأمين كامل احتياجات لبنان من المشتقات النفطية لتشغيل معامل الكهرباء بهدف تأمين تغذية اضافية مع بداية موسم الصيف، من خلال تأمين الكميات المتبقية بموجب اتفاقية سابقة ومضاعفة الكميات الشهرية، وتجديد هذه الاتفاقية بعد زيادة كميتها بنسبة 50% لتصبح مليون طن ونصف من زيت الوقود. وتتزامن الخطة ايضاً مع موافقة الحكومة العراقية على إبرام عقد جديد بشروط تجارية من دولة الى دولة لتأمين 2 مليون طن في السنة من النفط الخام يصار الى استبدالها بما يتوافق مع مواصفات المعامل اللبنانية.


امام ما تقدم من وقائع، من الأهمية بمكان ألا تُستخدم الامدادات العراقية لتعويض التأخير لا بل النقص في الجباية وغيرها من الخسائر التي قد تلحق بالخطة، لما يسببه ذلك من إخفاء لفعالية خطة وزارة الطاقة ولمدى نجاحها في تحقيق الاهداف المرجوة منها. ما يستوجب احتساب قيمة النفط العراقي ضمن اجمالي تكاليف الإنتاج، واعتماد ما يُعرف بحساب الارباح والخسائر الذي يُظهر صافي أرباح/ خسائر الخطة والتأكد من جدواها الاقتصادية وضرورة الاستمرار في تنفيذها.

سيما وإنّ حال الانهيار الذي تُعاني منه مؤسسات القطاع العام الخدماتية تُحتم إدارة هذه المؤسسات وفقاً للقواعد التجارية، بحيث يُشكل التوازن المالي لهذه المؤسسات هدفاً رئيسياً لإداراتها بموازاة استمرارية تقديم الخدمة وجودتها. ولا بدّ من تفعيل الحلول المستدامة وإعطاء الأولوية لمصادر الطاقة البديلة النظيفة والمتجددة، وكل انجاز في هذا المضمار مهما كان متواضعاً يجعل تحقيق هدف الاستدامة أسهل.

ذلك أنّ الانتظار حتى انتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية وحتى تستقيم الأوضاع السياسية قد يطول، من هنا أهمية أن تعمد الإدارات المعنية (كهرباء لبنان، أوجيرو، المستشفيات الحكومية وغيرها) الى الحوكمة الرشيدة التي تؤمن استدامة المرافق العامة وتحافظ على قدرتها على تقديم الخدمات المناسبة.العميد المتقاعد غازي محمود

 

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا