"التهريب" يجمع الأهالي والعبور "غير الشرعي" من يومياتهم
تُعَدّ الحدود القائمة بين الدولتين اللبنانية والسورية في البقاع الشمالي بسلبيّاتها وإيجابيّاتها حصيلة تطوّر سياسيّ ضارب في التاريخ، منذ ما يقرب من 103 أعوام، حين تمّ رسمها بفعل مبضع الانتداب الفرنسي، من دون أن يأخذ بعين الاعتبار مدى تطابقها مع منطق الجغرافيا وطبيعة السكّان والشعور الوطني الذي يُكنّه أبناء 33 قرية لبنانيّة في داخل الأراضي السورية.
وفي زيارة ميدانية لـ"النهار" على طول المعابر الشرعية وغير الشرعية لهذه الحدود، تجد أن المشاكل الحدودية هي الإرث الذي تركه الانتداب الفرنسي. أثناء عبورك حاجز الجيش على معبر حوش السيد علي، الذي يعتبر مصب قرى جهة الهرمل، تدرك معنى "تقسيم الحدود بشكل مخالف للواقع، كما هو الحال"، ومن المستحيل معرفة أين تنتهي السيادة اللبنانية وتبدأ السيادة السورية، إذ شهدت الحدود تطوراً ملحوظاً من كونها مجرد مناطق حدودية تندرج فيها سيادة دولتين جارتين إلى وضع الخط الأنسب للفصل بينهما، إلى المنازل المتلاصقة المجاورة و"الحيط ع الحيط". وقد اعتاد اللبنانيون الدخول إلى حدائقهم أو منازل أقربائهم عبر عبارة حديدية على قناة زيتا الحدودية المتفرّعة من نهر العاصي، حيث أصبح من الصعب الفصل بين البلدين، مما يجعل هذه الحدود بمفهومها التقليدي موضع جدل كبير باعتبارها ظاهرة جغرافية ذات بُعد سياسي واجتماعي.
المهندس منصور الهق يقول لـ"النهار": "لعل ما شهدته هذه القرى من مد وجزر في العلاقة الاجتماعية عبر التاريخ هو تجسيد واقعي لغياب الدولة بكل أشكالها، والتي كانت السبب الرئيسي في ذوبان السكان بمختلف انتماءاتهم في بوتقة واحدة هي "التهريب"، ونقاط العبور غير الشرعي هي أهم جوانب الحياة اليومية، وكانت #سوريا مشفى المنطقة وسوقها، ومدرستها ومتنفّس أهلها". ويتابع: "جاءت الأحداث السورية، فحظي المهرّبون بمتسع من الوقت لإتقان عملياتهم، لينعكس التهريب إلى الداخل السوري، واستغلال السكان والمهرّبين معرفتهم بالحدود للتملّص من دوريات الأمن والتواطؤ مع سلطات الحدود السورية، واستمرت عمليات التهريب على نطاق واسع دونما هوادة، علاوةً على ذلك أن عمليات تهريب البشر من سوريا إلى لبنان زادت، مما أدى إلى تفاقم المخاطر الأمنية، ومن هنا كثف الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى جهودها واوقفت التهريب، باستثناء المعابر الخاضعة للسيطرة السورية".
عناصر فوج الحدود البري الثاني تحت أشعة الشمس الحارقة وأبراجها بين أشجار السنديان. إنهم أسياد الحدود السهلية والجبلية. ولمن لا يعرف جيولوجية المنطقة، تشتهر منطقتا القصر والهرمل بجبالهما المكللة بأشجار السنديان المعمرة، من هنا يرى الجيش أن قضية الحدود هي من صميم سيادته الوطنية، ولا مجال للمساومة عليها، فعزز حضوره لإدارة الحدود تحت سلطة فوج الحدود البري الثاني واللواء التاسع، مما أدى إلى زيادة عدد مراكز المراقبة والدوريات المتنقلة المنتظمة وأنظمة المراقبة، وهذا يتطلب الاستثمار في التقنيات الجديدة، والتي تتطلب بدورها رؤوس أموال ضخمة، فكان الرد هبات بريطانية واميركية والمانية.
"يزنر" الفوج الحدود بأكثر من 40 حاجزاً على طول 42 كلم من جرماش السورية إلى الهرمل، احدها عند مدخل حوش السيد علي (رأس جسد التهريب نظرا الى موقعه على مسافة 90 مترا عن الحدود)، الذي تقسمه ساقية زيتا إلى ضفتين غربها اللبناني وشرقها السوري، في حين تشكل بلدتا مطربة والقصَير السوريّتان شمال غرب الحوش، والشواغير اللبنانية جنوبه، وتسيطر البساتين على الضفتين، من هنا، أغلق الفوج الخط الرئيسي باتجاه القصير وريفها وحمص، بعدما طوّق جميع معابر الحوش الثلاثين على الساقية بـ6 حواجز عسكرية، ومنع مرور غير سكان البلدة، وقام بتدمير شبكة أنابيب تهريب النفط التي مدَّها المهربون تحت الأرض. من أمام طريق الحوش الضيق، الذي بالكاد يتسع لسيارة واحدة، هادئ ولا ضجيج، وعلى مسافة 4 أمتار من مركز عسكري سوري "الهجانة"، يؤكد المختار حسن نمر نصرالدين أن عملية التهريب ضمن الحوش أُغلقت بشكل كامل، فلا مكان لتهريب البشر وغير ذلك.
لنتعرف الى امرأة من آل الطفيلي، فصلت الساقية بين منزلها في القسم السوري وحظيرة أغنامها في القسم اللبناني، فيما يتواجد شقيقها علي في الجانب اللبناني المقابل وعداد كهرباء منزله على الجانب الآخر، فلا تحتاج إلى الكثير لتلمّس موقع جارتهم السورية في حياتهم. وضمن هذه الجولة، يُلاحظ وجود معبر وحيد في المنطقة لـ "حزب الله"، يُعرف بـ"معبر المهمّة"، يمرّر من خلاله الحزب عتاده وعناصره من وإلى سوريا، ولا يمكن الاقتراب منه أو تصويره.
ولكل معبر في منطقة القصر حاجزه الذي أغلق بوابته أمام كل مهرب، ومن بينها 28 معبرا، وقد أغلقت عمليات التهريب بشكل نهائي على طول حدود القصر - الهرمل، 4 معابر منها داخل الأراضي السورية، و3 عند مطربة، ومعابر جبلية استراتيجية، من بينها معبر المراح، القنافذ (تقع إحدى المدارس الحكومية اللبنانية على مسافة 3 أمتار فقط من الحدود)، معبر قلد السبع (المعبر القانوني الوحيد للقرى اللبنانية). أما الآليات المهربة فتحاول شق طريقها عبر معابر السماقيات الثلاثة غير الشرعية وتتواجد دوريات الفوج ومخابرات الجيش على مدار الساعة.
وحدث خلال تواجدنا ان اوقفت محاولة تهريب سيارة وسائقها السوري محمد احمد حمودة، ليؤكد رئيس بلدية القصر محمد زعيتر أن الموضوع يأخذ عمقاً اجتماعياً فعلياً، وستبقى التجمعات المعزولة التي تسكن هذه الأطراف المهملة بيئة حاضنة محتملة للتهريب المتوقف حالياً في منطقة القصر، ما لم تتبن الدولة نهجاً اجتماعياً واقتصادياً أكثر اتساقاً تجاه أمن الحدود.
الجيش "مطوّق" من ناحية مشاريع القاع، فالخصوصية الجغرافية للمنطقة لا تسمح بكثير من عمليات التهريب بسبب ضيق المساحة ووجود معبر جوسيه الرسمي، كما تم رصد المسافة بالكامل بواسطة كاميرات الابراج الحرارية ليلاً ونهاراً، من منطقة النعمات مروراً بالدورة إلى المشرفة. ودعا رئيس بلدية القاع المحامي بشير مطر، إلى تعاون الأجهزة الأمنية مع الجيش، الذي يضطر إلى ترحيل سوريين موقوفين من دون أوراق نظامية إلى خلف الساتر الحدودي من دون تسجيل أسمائهم ومنعهم من الدخول، بسبب عدم توافر النظارات الكافية لدى الأمن العام، وتقييدهم في مهلة 24 ساعة، داعيا جميع الأجهزة إلى تجاوز هذه الإجراءات الروتينية في عملية الترحيل.
ورأى أن المشكلة الكبرى هي عدم التنسيق بين الأجهزة، وأن اللاجئ السوري الذي يعتقل بجريمة ما يعثر عليه مرة أخرى خارج السجون، فيجب أن يتم التنسيق مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بأنهم مجرمون وليسوا نازحين، وحل قضية الفرز والضم في اراضي القاع. في المقابل، في معبر القاع الأمني الحدودي، فإن التصور القانوني للأمن العام لأي تسوية حدودية يرتكز على الشرعية القانونية والحد من عمليات تهريب البشر من المبادئ الثابتة لسياسته، وهذا الطرح يتماشى مع مايقوم به الجيش وفق قرار المجلس الأعلى للدفاع عام 2019 بترحيل السوريين الذين دخلوا خلسة. ومن هنا نجد عوائق أخرى، وتتم عملية الترحيل وفق الأصول القانونية المتبعة بعد تسليمهم من الجيش إلى المركز، ويتم تنظيم محاضر التوقيف بإشراف النيابة العامة الاستئنافية وبالتنسيق مع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في لبنان خلال مدة تراوح ما بين 24 إلى 72 ساعة، وفي بعض الحالات تقوم النيابة العامة بمراجعة التمييز، بعد ذلك، تتم عملية تسليم السوريين المهربين إلى سلطات بلادهم في المركز الحدودي جوسيه المجاور للمركز وبناء على إشارة القضاء المختص، وهي عملية طويلة، ونظارات المركز مجهزة فقط لعدد معين، وفي أغلب الأحيان يكون من بين المبعدين نساء وأطفال، لذلك يؤمن لهم النوم في النظارات، والطعام والرعاية الصحية وغيرها.
هذه المعاملة الإنسانية التي تلتزمها المديرية العامة للأمن العام تتطلب معايير محددة ليست ضمن قدرتها اللوجستية، في ظل الإجراءات الأمنية الطويلة، فهل يستقبل 10 مبعدين ويترك الآخرين تحت أشعة الشمس أو الشتاء؟ ولا يزال المهربون يجدون طريقة لاستكمال أنشطتهم الخفيفة، كالأشخاص وغيرهم، رغم تشديد الرقابة اللبنانية على الحدود، حيث توجد مسافة 16 كيلومتراً للجيش السوري (في كل 150 متراً منها حاجز للهجانة السورية)، الذي وجد الحل الأمثل للأزمة الاقتصادية في بلاده، ومنفذاً عبر هذه المنطقة -السهل الواسع من قرية الجنطلية السورية مروراً بالعريض ودلك ومطربة وصولاً إلى غرب حوش السيد علي. ويبرّر اللبناني حقه التاريخي على أساس تصور جغرافي للحدود قائم على قاعدة الانتماء الوطني، وليس على أساس اقتصادي أو سياسي، باعتبار كلّ القرى التي تضمنتها خريطة الفرنسيّ أراضي لبنانية، وأهلها لبنانيّون يحملون الهوية اللبنانية، ويمارسون حقهم في الانتخابات، وهم اليوم مصمّمون على البقاء بفضل وجود الجيش اللبناني على الحدود بقوة، بعد فترة من تراجع الممارسات السيادية اللبنانية؛ ولذلك يبذل الأهالي جهودهم للتقيد بقرارات الجيش وتنفيذها، من خلال الدخول والخروج من الجانبين اللبناني والسوري عبر معابر الجيش القانونية، خصوصاً معبر "قلد السبع" في بلدة القصر، لدعم موقفه في نزاعه الحدوديّ مع السوري.
ومع الأخذ بمبدأ احترام هذا الإرث الفرنسي تبقى الحدود على حالها من دون أن تتعرض للتعديل، لأن فتح باب إعادة النظر فيها يؤدي حتماً إلى التوتر وعدم الاستقرار ويُثير مشكلات كبرى آنيّاً ومستقبلياً، فيما الحفاظ عليها يقي لبنان هزات يمكن أن تحدثها إعادة النظر في وضع الحدود، وإن كانت الحاجة ملحّة لدى الدولتين على السواء إلى إبطال العوامل المحفّزة للتهريب والفساد.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|