هوكستين في ذكرى لبنان الكبير: قصّة ضابط لبنانيّ يواجه 4 دول
قبل عشرة أيام من جلاء الاحتلال الإسرائيلي عن لبنان، وتحديداً في 16 أيار 2000، كان هذا الاتصال الهاتفي:
من نيويورك، على الخطّ الأمين العام للأمم المتحدة حينذاك، كوفي أنان.
من دمشق وزير الخارجية السوري يومها، فاروق الشرع.
الموضوع: تطبيق القرار 425.
قال أنان للشرع إنّ الحكومة اللبنانية تطالب بمزارع شبعا على أنّها لبنانية.
جواب الشرع: "الجمهورية العربية السورية تؤيّد هذه المطالبة".
هذه ليست خبريّة. هذه واقعة. صارت وثيقة دولية. بعدما أثبتها أنان في الفقرة 16 من تقريره المرفوع لمجلس الأمن في 22 أيار 2000، والذي أُقرّ بقرار منه في اليوم التالي.
الأهمّ، هذه حجّة كافية وحدها، بمفهوم القانون الدولي واجتهاده، لتحرير مزارع شبعا واستعادة لبنان لها كاملة.
ما المطلوب للتنفيذ؟ رجل دولة واحد. مثل ذلك الضابط الذي واجه 4 دول معاً.
إنّه فصل من فضائح وأكاذيب السجالات والنضالات حول الحدود اللبنانية، في فصلها البرّيّ.
أيّ مصادفة أن يزورنا كبير مستشاري الإدارة الأميركية لشؤون الطاقة حول العالم، آموس هوكستين، وأن تكون الحدود ضمن مباحثاته، في ذكرى إعلان لبنان الكبير في الأوّل من أيلول 1920؟
الحدود ملفّ يمكن اختصاره بثلاث إشكاليات:
- الأولى في منطلقها، عند رأس الناقورة أو نقطة ملامسة البحر للبرّ.
- الثانية خطّ الحدود، من هناك حتى آخر نقطة شرقاً.
- والثالثة مزارع شبعا. ملفّ لم يسلم أيّ مسؤول لبناني من "التخبيص" فيه. وهذه مجرّد أمثلة. لا دراسة في القانون ولا مطالعة في الطوبوغرافيا.
فلنبدأ من فوق، من مزارع شبعا. هي لبنانية بشكل مؤكّد. ولا تحتاج إلى أيّ إجراء قانوني دولي إضافي لتأكيد لبنانيّتها.
في القانون الدولي تستند الحدود إلى ما يسمّى "السند السياديّ". وفي حالة الحدود بين لبنان وسوريا، هذا السند يمثّله قرار الانتداب الفرنسي إنشاء دولة لبنان، في مثل هذا اليوم بالذات من سنة 1920. وبالتالي يكفي، وفق منطق القانون الدولي، أن يكون هناك سجلّ عقاري واحد، يشير إلى أنّ منطقة المزارع تابعة لقرية شبعا، في نطاق قضاء حاصبيا، وهو القضاء الذي أكّد قرار إنشاء دولة لبنان الكبير أنّه في لبنان، حتى يثبت القانون الدولي أنّ منطقة مزارع شبعا كلّها لبنانية.
وفي حالة المزارع هناك مئات السجلّات العقارية المماثلة.
يبقى السؤال طبعاً عن خطّ هذه الحدود بدقّة. والجواب هنا بسيط أيضاً.
فلهذه الناحية هناك سلسلة طويلة من التقارير والخرائط والقرارات التحكيمية الفرنسية الصادرة زمن الانتداب، وهي تحدد خط حدود المزارع اللبنانية جنوباً، بخط وادي العسل.
إذاً هذه هي حدود لبنان الدولية في منطقة المزارع لجهة الجنوب. وهي محدّدة بقعر وادٍ، أي أنّها تقوم على معلم طبيعي لا يمكن تغييره ولا تضييعه.
للمناسبة، غالبية خطوط الحدود الدولية تستند إلى معالم طبيعية. مثل خطّ القمم أو خطّ توزّع المياه أو قعر واد. وهذه مسألة مهمّة نعود إليها بموضوع الحدود مع فلسطين المحتلّة.
إذاً خطّ حدودنا الجنوبية في مزارع شبعا هو عند أسفل نقطة من وادي العسل.
يبقى خطّها من الشرق والشمال.
هي مسألة محسومة دولياً أيضاً. فبعد الاستقلال وجلاء الانتداب، وقّعت دولتا لبنان وسوريا على اتفاق الحدود بينهما في عام 1946. وهو مستند إلى نتائج أعمال لجنة عقارية لبنانية سورية، برئاسة القاضيين العقاريَّين، اللبناني رفيق الغزّاوي والسوري عدنان الخطيب. وقد رُسمت الحدود على خريطة 5000/1، ونُقلت العلامات على الأرض. وهي تمتدّ من شمال جسر وادي العسل إلى شمال بلدة النخيلة اللبنانية. وهو الاتفاق الوارد ذكره في مراسلات لبنانية - سورية مشتركة عديدة.
إذاً انتهى الموضوع.
لكن لماذا لم يُحسم الأمر سنة 2000؟
قيل إنّ الوثائق لم تُرسل يومها كاملة للأمم المتحدة.
أكثر من ذلك، بعد أعوام، كان الجيش اللبناني قد استكمل ملفّه الطوبوغرافي والقانوني حول مزارع شبعا. عرضه أحد الضبّاط على المسؤول الطوبوغرافي الذي تولّى ترسيم الخطّ الأزرق سنة 2000. واسمه ميكلوس بينتر. فكان جوابه: "لو أطلعتني حكومتكم على هذه المستندات سنة 2000، لوضعت مزارع شبعا ضمن الخطّ الأزرق بلا تردّد"!
لماذا لم يحصل ذلك؟ قيل يومها إنّ أربع دول التقت على ترك الموضوع عالقاً. سوريا وإسرائيل وإيران وأميركا. كلّ لحساباتها المكشوفة والمعروفة. لا لزوم لتفصيل.
المفارقة أنّه بعد عدوان تموز 2006، يبدو أنّ اتفاق "غزّاوي – خطيب" وسواه من مستندات أُرسلت إلى نيويورك، بلا جدّية في المتابعة والمطالبة.
قبل العدوان أيضاً، نهاية 2005 مطلع 2006، تشكّلت لجنة لبنانية لدراسة الملفّ. خلُصت إلى تكوين ملفّ محكَم. لم يرسَل الملفّ أيضاً إلى الأمم المتحدة بحجّة ألّا يناقض لبنان نفسه مقارنة بما قدّمه سنة 2000 من مستندات مغايرة!
الحجّة نفسها استُخدمت سنة 2021 مع الحدود البحريّة!
ظلّت الأمم المتحدة تتذرّع بوقائع "التخبيص" اللبناني طوال عقود. وهو ما أثبته كوفي أنان في تقاريره الأممية.
الخلاصة: مزارع شبعا لبنانية. لا تحتاج إلى أيّ ترسيم، ولا إلى أيّ وثيقة سورية إضافية.
يمكن للسلطات اللبنانية أن تطلب مباشرة من مجلس الأمن رعاية التنفيذ وطلب انسحاب إسرائيل الكامل منها، تحت طائلة اعتبار ذلك انتهاكاً للقرار 425 بالذات، لا لأيّ سند آخر.
تذكيراً لمن نسي أو يجهل، ينصّ هذا القرار في فقرته الثانية بوضوح على طلب مجلس الأمن "من إسرائيل (...) أن تسحب فوراً قواتها من الأراضي اللبنانية كافّة".
إذاً الأراضي اللبنانية كافّة، لا الأراضي التي احتلّتها في النزاع الأخير ولا غيرها من الصيغ الرمادية المعتمدة في قرارات أممية أخرى.
الأراضي اللبنانية كافّة، ومن ضمنها مزارع شبعا كلّها، وخراج بلدة الماري أيضاً. كيف؟ يكفي ملفّ قانوني محكَم، كالذي أرعب إسرائيل بموضوع الخطّ 29 بحراً، ورجل دولة لا غير...
مماحكات الحدود وأكاذيبها
بعد شبعا، هذا بعضٌ من مماحكات خطّ الحدود والأكاذيب حوله.
هنا الخطّ أيضاً مثبَت دولياً، ومُرسّم بين منطقتين دوليّتين سنة 1923، بموجب اتفاق "بوليه – نيوكومب". وأعيد تأكيده بموجب اتفاق الهدنة سنة 1949. بعد جلاء الاحتلال الإسرائيلي سنة 2000 أُقيم خطّ انسحاب، سُمّي الخطّ الأزرق، وسجّل لبنان عليه ثلاثة اعتراضات أخيرة بعد نزاعات طويلة حول نقاط أخرى.
لكن بعد عدوان تموز 2006، وُضع خطّ انسحاب جديد. رُسّم على الخرائط بقلم يوازي عرضُه على الأرض، نحو 25 متراً. صارت نقاط الاعتراض عليه 13 نقطة.
على مدى أعوام طويلة منذ 2006 حتى 2018، كانت ثمّة مفاوضات، بعضها معلَن وبعضها الآخر غير معلن، لتسوية هذه النقاط.
كان الغرض الإسرائيلي منها محاولة تكريس قاعدة أنّه يمكن اللعب بخطّ "بوليه - نيوكومب"، بهامش عرض يوازي خطّ حبر الخريطة. أي بهامش 25 متراً، جنوباً أو شمالاً. نأخذ من أرضكم 25 متراً في نقطة معيّنة، وتأخذون مثلها في نقطة أخرى. لا بل قيل مراراً إنّ العدوّ كان كريماً معنا متساهلاً غير متزمّت. كان يعطينا أكثر ممّا يأخذ. وكان همّه تثبيت خطّ دولي جديد قائم على اعتباراته الأمنيّة، لا على المعالم الطبيعية التي أرستها حدود "بوليه – نيوكومب".
كان التفاوض مستمرّاً، حتى سنة 2018. يومها وفي أحد اجتماعات التفاوض، قال أحد الضباط اللبنانيين: "إنتبهوا. قاعدة التبادل هذه خطيرة. وبالتأكيد فهي لا يمكن أن تصل إلى رأس الناقورة. هناك لا هامش ولا حبر عريضاً ولا شريط 25 متراً. هناك نقطة. نقطة واحدة. بحجم حصاة أو حبّة رمل حتى. هي نقطة ملامسة مياه البحر لتراب برّ لبنان. منها تنطلق حدودنا، ومنها تذهب صعوداً حتى آخر البرّ... والبحر".
فهِم الإسرائيلي أنّ مناورته كُشفت. وبالتالي سقطت. فتوقّفت المفاوضات. وذهب فوراً إلى بناء جداره الفاصل عند نقاط الاعتراض.
كان في حساب الإسرائيلي أنّ لبنان، سلطةً وسياسيّين، غافل عن حدود البحر والمياه. فإذا كرّس قاعدة زحزحة خطّ الحدود 25 متراً، يقدر لاحقاً على "دفش" رأس الناقورة شمالاً ولو بضعة أمتار، بما يعطيه كيلومترات البحر.
أُسقطت المناورة سنة 2018، قبل أن يأخذ كلّ شيء لاحقاً، بفضل "عملاء كاريش" الذين أسقطوا رأس الناقورة دولياً، وغيّبوه كلّياً عن وثائق الاتفاق الحدودي والتجاري، الذي أبرموه باسم "الجمهورية اللبنانية" مع "دولة إسرائيل"، كما تؤكّد وتكشف وثائق الأمم المتحدة.
قد لا يهتمّ السيد هوكستين بهذه التفاصيل. أولويّاته حصصيّة أكثر منها حدودية. مسألة مفهومة منه. مع تقدير حرصه وجهوده والنيّات.
لكن أن تصير أولويّات حكّام لبنان حصصيّة لا سيادية أيضاً، فهذه مسألة ترقى إلى حدود الخيانة العظمى، وإن باتوا مرتبطين باتفاق دولي مع من يزعمون أنّه عدوّهم.
جان عزيز - اساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|