تسخيفُ الرئاسة تسخيفٌ للمواطن وللوطن
ممثلو الشعب، النواب ورئيس الجمهورية، يجسّدون الإرادة الوطنيّة التي يُعبَّر عنها من خلال إنتخابات حرّة يشارك فيها المواطنون، مباشرة أو بطريقة غير مباشرة.
رئيس الجمهوريّة يجسّد بموقعه هذه الإرادة الوطنيّة، وكلّما جرى تسخيف هذه الإرادة، طال التسخيف موقع الرئيس. من يراقب انتخابات رئاسة الجمهوريّة منذ الإستقلال، يلاحظ التسخيف المتواصل والمتزايد حدّةً مع الزمن، لموقع الرئاسة. من انتخاب الرئيس بتوافقات خارجيّة، الى انتخاب الرئيس كنتيجة للإحتلال الإسرائيلي، الى انتخاب رؤساء بضغط من الهيمنة السوريّة، الى انتخاب رئيسين بدفع من سلاح "حزب الله".
التسخيف لم يبدأ إذًا مع اتفاق الطائف الذي قلّص صلاحيات الرئاسة، بل جاء نتيجة تطوّرات ميدانيّة، وبرضى رؤساء الجمهوريّة المنتخبين.
أهمية موقع الرئاسة لا تتأتّى من مقام الرئاسة بحدّ ذاته، بل من الإرادة الوطنيّة التي تمثّلها. فأي أهمية للرئاسة إذا كان من يأتي بالرئيس، إرادة خارجيّة، أو دفع اموال أو سلاح؟
تسخيف موقع الرئاسة بدا فاقعًا في الجلسة الأولى لإنتخاب رئيس للجمهوريّة خلفًا لميشال عون. دعوة الرئيس برّي كانت أقرب الى تسجيل النقاط و"الزرك بالزاوية". وهذا بحدّ ذاته استخفاف بأهميّة الحدث وما يقتضيه من رصانة وإرادة حقيقيّة لإنجاز الإنتخاب. وقد شكل اختتام #بري للجلسة العقيمة بقوله انه لن يدعو الى جلسة مقبلة إذا لم يلحظ توافقًا، تعدّيًا على مفهوم الديموقرطيّة كتفاعل للإرادات الحرّة من خلال التصويت وليس كنتيجة لتوافقات. يكمن العطب الأساسي هنا، في إعطاء الدستور رئيس المجلس حصريّة حق الدعوة الى جلسة الانتخاب، وهذا بحد ذاته تسخيف قانوني لموقع الرئاسة.
التسخيف الثاني جاء من فريق 8 آذار الذي صوّت بالورقة البيضاء، كأنّه يعترف بأن لا إرادة لأعضائه. وقد جرى تبرير هذا الموقف بأن هذا الفريق لم يتّفق بعد على مرشّح واحد في ظل التنافس بين مرشّحَيه، باسيل وفرنجيّة. وهنا يتجلّى تسخيفٌ من نوع آخر لموقع الرئاسة، يتعلّق بشخصيّة المرشحيّن: فباسيل هو السياسي الأكثر مكروهيّة بالنسبة الى الشعب ال#لبناني، وفرنجيّة هو الأضعف تمثيلاً في بيئته المسيحيّة.
عمليّة التسخيف الثالثة ارتكبها الفريق الذي صوّت لـ"لبنان" او لـ"مهسا اميني" من دون تسمية شخصيّة لبنانية معيّنة، وفي هذا قلة إحترام لأهداف المناسبة واستخفاف بالشخصيات المرشّحة.
أما التسخيف الرابع والأخير فقد ارتكب خطيئته للأسف "نوّاب قوى التغيير"، الذين اختاروا أن يصوِّتوا لشخص غير معروف وغير مرشّح، بحجّة انه آدمي وناجح ومن "خارج الإصطفافات". وقد برّر النائب مارك ضو هذا الخيار بالقول انهم يريدون "رئيسًا إنقاذيًّا". فكيف يمكن لشخصيّة غير مسيّسة وبدون خبرة في الشأن العام وبدون قاعدة شعبيّة ان يكون رئيسًا منقذًا؟ حتى ولو كان ناجحًا كرجل أعمال ويريدون تعيينه كمدير لشركة، فهل نجاحه في إدارة شركة تعمل وتنتج، يؤهّله حكمًا للنجاح في إدارة شركة مفلسة؟ بخيارهم هذا، استخف "نوّاب قوى التغيير" بحدث إنتخاب رئيس جديد للجمهوريّة الذي من أجله أطلقوا مبادرة استحوذت على معظم جهودهم.
لا يوجد مجتمع سياسي بدون اصطفافات، ولا إمكان لإحداث تغيير في هذا المجتمع بدون التأثير في هذه الإصطفافات. الحياد في هذه الحالات هو دعم أكيد للإصطفاف صاحب النفوذ الأقوى، أي في الواقع اللبناني، لفريق 8 آذار.
الفريق الوحيد الذي لم يستخف بالحدث ولا بالرئاسة، هو الفريق الذي صوّت لميشال معوّض.
لا شك في ان عهد ميشال عون أعطى دفعًا قويًّا لمسار تسخيف رئاسة الجمهوريّة. فقد ارتضى ان يُنتخب بعكس الإرادة الفعليّة لجميع الكتل النيابيّة باستثناء كتلة "حزب الله". وأتى بقوّة "بندقيّة المقاومة" كما صرّح أحد نواب هذا الحزب. وبدل ان يستخدم صلاحياته الدستوريّة وأهمّها احترام الدستور والحفاظ على الاستقلال، عبث بالدستور ووضع استقلال الدولة تحت رحمة "حزب الله" وإيران. وإذ اعتقد انه بتعدّيه على صلاحيات رئاسة مجلس الوزراء ومجلس الوزراء، يعوّض عن تخاذله في ما يتعلق بصلاحياته، ويستعيد هيبة الرئاسة، إذا به يسخّف هذه الرئاسة من خلال إقحامها في الحرتقات السياسيّة، التي كان يديرها بالفعل صهره، جاعلا من الإرادة الوطنيّة التي من المفترض انه يمثّلها، رهينة بيد إرادة شخص يوظّف المصلحة العامة في خدمة مصلحته الشخصيّة.
وفي حين ان إرادة الفعل والفعل، هما من أهم عناصر المسؤوليّة السياسيّة، فإن إرادة التعطيل والتعطيل الذي مارسه ميشال عون طيلة عهده، من أهمّ مؤشرات تسخيف المسؤولية السياسية.
لا أوافق البطريرك الراعي بأن تعطيل الإستحقاق الرئاسي - أو تسخيفه بحسب توصيفي- هو تعطيل للدور الماروني، فتسخيف الرئاسة هو من تسخيف الجمهوريّة، التي هي من تسخيف إرادة المواطن والوطن.
غسان صليبي - النهار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|