أزمة سوريا بين الحضنين الإيراني والعربي
العدوان على غزّة خلط الأوراق من جديد. ساهمت حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 في إعادة إنتاج مرحلة مغايرة، وفي تشكيل توليفة عربية جديدة، مع دور عربي جديد بحضور مختلف. وقد يكون ثمن ذلك قدرة طهران على التمدّد والتغلغل في المنطقة العربية، وخاصة في سوريا. فهل هذا ممكن؟
استُهدف الجنرال قاسم سليماني أولاً في 3 كانون الثاني 2022 عندما كان في طريقه من سوريا إلى العراق. كان الردّ الإيراني حينها “اتفاقياً” في تحديد الزمان وانتقائياً في اختيار المكان. لم يكن سليماني رجلاً عاديّاً لناحية التطلّعات الثورية الإيرانية الخارجية. إنّه الشخص الذي:
– طوّر فيلق القدس. نقله من جهاز عاديّ مسؤول عن العمليات الخارجية، ويدرّب الفرق الإيرانية والميليشيات العربية، إلى منظّمة أخطبوطيّة شاملة زعيمة محور يخترق الحدود ويُخضع الجغرافيا العربية.
– فتّت مفهوم الدولة الوطنية في كلّ من العراق واليمن وسوريا ولبنان.
– نجح في تحقيق الاحتلال الإيراني في أربع دول عربية، عبر نظرية “الدفاع الأماميّ”، لكي يشكّل من المنطقة ورقة استثمار رابحة لحفظ النفوذ الأميركي لإيران وتسهيل مواجهة الهيمنة الأميركية على المنطقة.
قتل ثانياً الجنرال رضا زاهدي القائد الكبير في فيلق القدس، في الأوّل من نيسان الماضي 2024، مع مجموعة من كبار الضبّاط والمستشارين الأمنيّين. أتى الردّ مساء السبت الماضي وفجر الأحد، على شاكلة مسرحية مثيرة في ضجيجها وأضوائها وإعلامها، قاصرة من جهة على استهداف الأهداف الحيويّة، والعديمة الأذى في الكيان الإسرائيلي.
أحرج استهداف القنصلية في دمشق إيران كثيراً. هو مسّ بالسيادة الإيرانية على الرغم من إصرار فئات كبيرة من المؤسّسات الحاكمة في إيران على أنّ الردّ هو في استمرار المشروع، وليس في الردّ بحدّ ذاته. إلا أنّ طهران كانت ملزمة بالردّ، حفظاً لماء وجهها وهيبتها أمام محور الممانعة وأذرعها، قبل الخصوم والأعداء والمجتمع الدولي. صبرت قليلاً في إعداد خطّة ردّها لكي تكون:
– أوّلاً: ضمن قواعد الاشتباك الإقليمية.
– ثانياً: تحافظ على أرجل طاولة حوار التسوية الجوهرية مع الأميركي.
– ثالثاً: أن يكون ردّاً لا يجرّ إلى مواجهة شاملة.
هذا ولم يكن الجنرال رضا زاهدي شخصية أمنيّة عادية في إيران، إذ كان له دور أساسي في:
– توسيع أنشطة فيلق القدس، الذراع الخارجية في الحرس الثوري في لبنان.
– دعم الحزب وتوفير سلاسل الإمداد والتوريد الآمنة في شحن الأسلحة.
خسرت إيران خسارة كبيرة ظاهرياً من جرّاء استهداف هذين القائدين. فصلت بينهما أربع سنوات. تطوّرت الأحوال الإقليمية والدولية.
ربّما يقرأ الإيراني هذه التحوّلات بعناية. بدأ السوري بالمفاضلة والإقرار بأنّ مصلحته هي في دفء الحضن العربي. تتشابه هذه المرحلة مع الحقبة المصريّة في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، عندما اتّخذ قرار إخراج الخبراء السوفييت من مصر، وتحوّله من الحضن السوفييتي إلى الحضن الغربي والتحالف الأميركي. وكانت مصر تهدف من وجود الخبراء الروس والسوفيت على أرضها إلى رفع مستوى المواجهة من الدرجة الإقليمية بين العرب والكيان الإسرائيلي إلى الدرجة الدولية بين السوفيت والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
ابتغت مصر أيضاً من طرد مستشاري الاتحاد السوفييتي لاحقاً، تحويل دفّة ومسار السياسة الخارجية المصرية من خانة عدم الانحياز ومحاربة المشروع الأميركي إلى حالة التحالف والصداقة، والتفكير في الحلول الشاملة والنهائية. وبالمقارنة، اقتنعت إيران بوجود الكيان الإسرائيلي، مع تراجع هدفها في شطبه عن الخريطة، والالتزام بالقوانين الدولية، والحلول السلمية أثناء حرب غزة وبعدها.
ارتياب إيرانيّ من سوريا
يتجلّى بوضوح ارتياب كبير في طهران من الأدوار والأهداف السورية المتّصلة في الكثير بالسياسات الإيرانية، في إطار الحرب الدائرة في غزة وتشعّباتها الإقليمية. ينعكس هذا الأمر من خلال تسليط الضوء بالمباشر على بعض النقاط المحورية من أجل فهم السلوكين الإيراني والسوري. يتعلّق جلّها بسياق فهم الملامح الأوّلية لتناقضات محتملة داخل التحالف بينهما، خاصة في ظلّ موجة التطبيع العربي – السوري المدعومة من كلّ من روسيا باطنياً والصين علنياً. تقلق هذه الممارسات إيران بشدّة لأنّها قد عرضت في السابق على النظام السوري خدماتها من أجل إعادة بناء الجسور العربية – السورية بنَفَس إيراني، والسؤال الذي يدور في الأوساط الإيرانية: لماذا الآن؟
تشكّ إيران كثيراً في غطاء سوريا ونشاطها. لكن لا يمكنها الاستغناء عنها أو تعويضها لأسباب عديدة (جغرافية – سياسية – لوجستية وأمنيّة). تخاف وتحقّق في تواطؤ محتمل من الجانب السوري. يمكن أن يكون عاملاً مسهّلاً بقصد أو عن خرق للوصول إلى هذه الأهداف الإيرانية المثيرة. ومن الممكن أن يكونوا كذلك قرابين إيرانية نفيسة جداً على درب جلجلة المفاوضات والتسوية المنتظرة، وعلى مذبح آلهة المفاوضات الكبرى مع انطلاق فرضية إيران الاستراتيجية في عدم حاجتها في مرحلتها الجديدة إلى رموز وقيادات مرحلتها القديمة والحالية.
لا يخلو التحالف السوري – الإيراني من تناقضات داخلية، إذ توجد لدى إيران أجندتها القومية في سوريا. ويتوافر لدى النظام السوري كذلك مجموعة من الدوافع والنظريّات والانتهازيّات السوريّة في إيران. يقترن هذا مع ما يستطيع النظام أن ينجح فيه من ناحية التنفيذ الجبريّ السوري المطواع للمخطّطات الإيرانية لكي يأمن وينجو بنفسه. هذا ما تطلبه إيران كمقابل لدعم النظام في سوريا.
أميركا وإيران: قوّات احتلال
تصف إيران القوات الأميركية الموجودة في سوريا بقوات الاحتلال. يؤكّد هذا التوصيف الأهمّية الاستراتيجية السورية في سبحة طهران الإيرانية. إنّها من ركائز مناطق ثورتها وأذرعها العربية. لكن غاب عن بال إيران أنّ لفظ قوّات الاحتلال يتطابق عليها هي أيضاً، وأينما حلّت من سوريا إلى العراق أو لبنان، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
لذا تولي إيران كلّ اهتمامها بالوجود الأميركي في سوريا، وخاصة في قاعدة التنف العسكرية. يوجد هذا المركز الأمنيّ في منطقة استراتيجية مهمّة، على تقاطع الحدود السورية الأردنية العراقية. تنشغل طهران بالدور الحقيقي لهذه القاعدة. ويتمثّل في الإعاقة والعرقلة الأميركية للعبور الإيراني إلى سواحل المتوسّط ومدنه العربية قدر الإمكان، وهو ما فشلت فيه أميركا في الأصل.
تدرس أيضاً الطريقة السورية في تنفيذ الأجندة الإيرانية. ولا تتوانى عن التركيز على هذه القاعدة لأنّها تقع على أهمّ طريق يصل بين إيران مركز الثورة والحكم والبحر المتوسط عبر أذرعها العربية. يكمن الصراع الحقيقي بين الأميركي والإيراني في أمن الكيان الإسرائيلي، وكيفية السيطرة على مدن مناطق نفوذ المياه الدافئة، إذا صحّت احتمالية تصفير التناقضات الإيرانية السورية، على اعتبار أنّها عاجزة وقاصرة عن التأسيس لأيّ افتراق. إلا أنّ الاختلاف هو في سلوك كلّ من الحليفين في الحرب الدائرة حالياً في غزة التي أظهرت أنّ لهما أجندة متناقضة تماماً مع مبدأ وحدة الساحات والمصالح. هل تتفهّم إيران هذا الاختلاف؟
لا تعير إيران حالياً هذا الأمر أيّ اهتمام ظاهري لأنّه لا يهدّد مصالحها كثيراً. إنّما يعزّز أوراق النظام السوري العربية والدولية. لا ضير في ذلك ما دام تحت قبّة التقارب السعودي – الإيراني. في حين أنّها تراقب أكثر انكسار ضوء حركة الرمال السياسية التكتيّة والاستراتيجية، خاصة بعد 7 أكتوبر الفائت، يوم اندلاع حرب غزة في فلسطين المحتلّة. إذ فرضت هذه الأحداث على دول المنطقة بأكملها إلزامية البحث عن مواقفها وضرورة التحصين في مواقعها، مع ما يتلاءم وخريطة النفوذ المتحرّكة المستقبلية.
تدخل عمليات استهداف القادة الأمنيين في فيلق القدس، والمستشارين الأمنيين في الحرس الثوري، إضافة إلى سحب الكثير منهم، ضمن إشكاليّات الأرجحة السوريّة بين الأحضان، مع إمكانية انتقالها من الحضن الإيراني إلى أحضان مختلفة جوهرها عربي. يلعب النظام السوري على هذا الوتر، وهو يجيد بالوراثة فنون اللعب بين الأحضان والأرجحة والقفز على حبال الانتماءات السياسية الدولية والإقليمية منذ زمن الأسد الأب. يستمرّ في ذلك إلى يومنا هذا، حتى لو فقد النظام السوري الكثير والكثير من الوزنات والحكمة والسطوة مع الأسد الابن.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|