إقتصاد

أسعار النفط بين النزاعات الجيوسياسية والعوامل الاقتصادية

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

كتب العميد الدكتور غازي محمود :

تتميز أسعار النفط بسرعة تقلباتها على إيقاع التطورات الاقتصادية والنزاعات الجيوسياسية التي مع ازدياد حدتها، يتسارع الطلب في الأسواق وترتفع الأسعار استباقاً لأي تطور سلبي محتمل، قبل أن يعودا الى الاستقرار استعداداً لمرحلة جديدة من التقلبات والتذبذبات التي غالباً لا تتأخر. وتدل التجارب التاريخية على أن النفط يُشكل أحد أبرز أسباب النزاعات السياسية والعسكرية على الساحة الدولية، وهو في الوقت عينه شديد التأثر بهذه النزاعات والتي تنعكس ارتفاعاً في أسعاره.

أولى صدمات أسواق النفط وتقلبات أسعاره، جاءت بعد حظر النفط العربي في العام 1973 من القرن الماضي عن الدول الغربية، لا سيما منها الولايات المتحدة الاميركية، رداً على دعم هذه الدول لإسرائيل في حرب تشرين الاول/أكتوبر في مواجهة الدول العربية. الامر الذي تسبب بارتفاع سعر برميل النفط، حيث قفز من 2.32 دولار إلى 11 دولاراً، على الرغم من أن الحظر دام فترة محدودة. وقد شكل هذا الحدث فاتحةً لتقلب سعر برميل النفط وتذبذبه على امتداد القرن الماضي وحتى يومنا هذا.

وفي الالفية الجديدة استمرت أسواق النفط العالمية عرضة للتقلبات والصدمات، فقد تسببت أحــداث 11 أيلول/سـبتمبر 2001 في الولايــات المتحــدة الأميركية بانخفاضٍ كبير في متوسط أســعار الــنفط التي سجلت 23.1 دولاراً للبرميل بعد أن كان بلغ سعره الـ 27.6 دولار في العام 2000، وقد استمر هذا الانخفاض خلال العام 2002 حيث بلغ متوسط سعر البرميل الـ 18.2 دولاراً. في المقابل عاد سعر النفط الى الارتفاع بشكل متواصل حتى العام 2008 ليبلغ متوسط سعر البرميل الـ 94 دولار أميركي، أما في العام 2009 فقد انخفض متوسط سعر البرميل ليبلغ الـ 61 دولاراً. 

وعلى وقع التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، عاودت أسعار النفط ارتفاعها اعتباراً من العام 2010، حيث بلغ متوسط سعر البرميل 106 دولارات في العام 2013. ليعود وينخفض في العـام 2014 الى نحو 40 دولاراً، واستمر سعر برميل النفط على هذا المنوال حتى العام 2016 مسجلاً أقل من 27 دولاراً، بالغاُ بذلك أدنى مستوى له على مدى ثلاثة عشر عاماً. أما في العامين 2017 و2018 فقد عاد سعر برميل النفط الى الارتفاع ليبلغ على التوالي 52.5 و69.8 دولاراً، فيما اتجه السعر الى الانخفاض في العام 2019 متراجعاً الى 64 دولاراً للبرميل نتيجةً لتباطئ النشاط الاقتصادي العالمي.

ومع مطلع العام 2020 انهار الطلب العالمي على النفط والغاز الى أدنى مستوياته، وأدى الى انخفاض الاسعار بشكلٍ غير مسبوق، جراء الارباك الذي تسبب به تفشي وباء كورونا المستجد (COVID-19) وما نتج عنه من اغلاق للقطاعات الاقتصادية. حيث بلغ متوسط سعر سلة أوبك 41.50 دولار للبرميل، بانخفاض بنحو 22.5 دولار للبرميل وبلغت نسبته 35% مقارنة بسعر البرميل في العام 2019. ومع بداية العام 2021 استعادت أسعار النفط اتجاهها التصاعدي لتُسجل قُرابة الـ 70 دولار كسعر وسطي للبرميل. 

وما أن استعاد الطلب العالمي بعضاً من زخمه حتى جوبه بالتوترات الجيوسياسية التي تعصف بالساحة الدولية منذ العام 2022، لا سيما منها الحرب الروسية الأوكرانية، في وقتٍ تُعد روسيا ثاني أكبر مصدر للنفط الخام والمصّدر الرئيسي للغاز الى أوروبا. الامر الذي انعكس ارتفاعاً حاداً في سعر برميل النفط، وسجل خام برنت 139 دولاراً للبرميل في اليوم التالي للحرب قبل أن يتراجع ويعود الى السعر الذي كان عليه في العام 2021 أي 70 دولاراً للبرميل. وذلك بسبب تباطؤ الاقتصاد العالمي وتوجه الدول الاوروبية الى زيادة اعتمادها على المصادر البديلة والطاقة النظيفة والمتجددة.

ومع بداية العدوان الإسرائيلي على غزة في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ومن ثم عمليات المقاومة المساندة لغزة من الجنوب اللبناني التي سرعان ما حولها العدو الإسرائيلي الى عدوانٍ شامل على لبنان، عاود متوسط سعر برميل النفط ارتفاعه ليصل إلى 83 دولاراً، بزيادة بلغت نسبتها 14% عما كان عليه في العام 2022. وفي العام 2024، شهد سعر برميل النفط تأرجحاً، حيث انخفض السعر خلال النصف الأول منه ليبلغ الـ 74 دولار تقريباً، وليرتفع مجدداً في مطلع النصف الثاني مسجلاً 81 دولاراً لوقت قصير ليعود الى الانخفاض خلال الربع الثالث من السنة ويبلغ الـ 75 دولاراً اليوم. 

وكانت أسعار النفط قد انخفضت بنسبة %3 لتتسبب بخسائر في تعاملات يوم الثلاثاء 15/10/2024 بعد تقارير إعلامية رجحت عدم اقدام إسرائيل على ضرب أهداف نفطية إيرانية، مما هدأ المخاوف من حصول اضطراب في إمدادات النفط والغاز. وادى انخفاض الأسعار حوالي أربع دولارات الأسبوع الفائت، الى محو المكاسب التراكمية التي حققتها خلال سبع جلسات حتى يوم الجمعة 11/10/2024، جراء قلق المستثمرين إزاء المخاطر المحيطة بالإمدادات مع عزم إسرائيل على الرد على هجوم إيران الأخير. 

وتلعب العوامل الاقتصادية دوراً مقرراً في توجيه أسعار النفط وتحديد مستوياتها، حيث تنخفض هذه الأسعار كلما ازدادت المخاوف المتعلقة بتباطؤ الاقتصاد العالمي، الى غيرها من العوامل الاقتصادية كسعر الفائدة الذي يُساعد انخفاضها على زيادة الاستهلاك وتؤدي في المقابل الى ارتفاع سعر النفط. وكانت أسعار النفط مهددة بمزيد من التراجع لولا مبادرة الدول المنتجة الرئيسية الى تخفيض انتاجها، وقد شجع تراجع الأسعار الدول المستهلكة للنفط على إعادة تكوين مخزونها من الخام وبالتالي حفزت الطلب مجدداً. 

في المقابل، وبعد أن كانت التوترات الجيوسياسية تلعب الدور الأبرز في التأثير على أسعار النفط، نجد اليوم تأثير هذه التوترات يقتصر على إحداث تقلبات قصيرة الاجل. فعلى الرغم من استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك استمرار الحرب الاسرائيلية على غزة وتوسيع عدوانها على لبنان، بالإضافة الى دخول الحوثيين وبعض التنظيمات العراقية على خط النزاع، مع ما يُثيره ذلك من مخاوف حول استقرار المنطقة بأكملها، نجد أن ردة فعل الأسواق النفطية اقتصرت على ارتفاع مؤقت ومحدود في أسعار النفط. 

ويكمن انحسار تأثير نزاعات المنطقة الجيوسياسية على أسعار النفط، في اعتماد الدول العربية المنتجة للنفط سياسة النأي بالنفس عن الحرب الدائرة في لبنان وفي غزة، وامتناعها عن استخدام النفط أداةً للضغط، على الدول التي تدعم إسرائيل في عدوانها الوحشي، على غرار ما فعلته في العام 1973. الامر الذي يُسقط صفة السلعة الاستراتيجية عن النفط على الرغم من دوره المحوري في الاقتصاد العالمي، جراء عجز الدول المنتجة عن التحكم بمواردها بما يخدم مصالحها وقضاياها الوطنية.

كما ساهم في الحد من تأثير هذه النزاعات، ارتفاع حجم انتاج الدول غير المنضوية ضمن منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك)، لا سيما منها الدول الخاضعة للعقوبات الأميركية، ما أوجد سوقاً موازية في خدمة كبار المستهلكين وخاصةً منها الولايات المتحدة الأميركية. ذلك أن هذه العقوبات لم تمنع الدول المعاقبة من التصدير، بل ساهمت في الإبقاء على الأسعار عند مستويات متدنية تتناسب مع مصالح الدول المستهلكة. 

شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا