التحول السوري لغزٌ لا تفسّره الوقائع قبل 8 ديسمبر
لا يمكن أي نظرة أو مراجعة للتطورات التي شهدها العام الأخير حتى تاريخ 8 كانون الأول (ديسمبر)، أن تساعد في وضع اليد على أدلة أو مؤشرات قد يُستخلص منها أن المشهد السوري كان مقبلاً على الانقلاب الجذري الذي حصل، متمثلاً بإطاحة نظام الأسد وقيام سلطة جديدة بقيادة "هيئة تحرير الشام".
وكانت الوقائع تشير إلى أن النظام السابق اجتاز شوطاً لا بأس به في تعويم نفسه بمساعدة روسيا، محققاً إنجازات ديبلوماسية رفعت عنه طوق العزلة عربياً وأوروبياً، وخصوصاً مع الانفتاح الإيطالي عليه قبل أسابيع قليلة من سقوطه. كذلك اتخذ موقفاً حيادياً من حربي غزة ولبنان. وكانت معادلة أستانا لا تزال تشكل غطاءً لحالة الستاتيكو الميدانية التي استمرت منذ عام 2020 باستثناء حالات تصعيد محدودة. وقد عقدت الجولة الـ22 من أستانا في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) بمشاركة كل من روسيا وإيران وتركيا، ولم يصدر عن الاجتماع ما يخالف الجولات السابقة.
من شأن هذه الجزئية أن تثير الشكوك حول السردية التي حاولت إيران ترويجها لتبرير خسارتها منطقة نفوذها في دمشق. وقامت هذه السردية على شقين: الأول الزعم أن طهران كان لديها معلومات عن التحضير لعمل عسكري قبل أشهر. والثاني أن الجيش السوري لم تكن لديه إرادة قتال، وليس منطقيا أن يأتي الجيش الإيراني ويقاتل عنه. ولو كان لدى إيران مثل هذه المعلومات المسبقة، هي التي تدرك أن نفوذها في سوريا كان على لائحة الأهداف الإسرائيلية، لكانت الجولة الـ22 من أستانا قد اتخذت مساراً مختلفاً، أو ربما لم تكن عقدت أساساً بسبب التخوف من نيات أنقرة التي اتهمها المرشد الإيراني لاحقاً من دون تسميتها بالضلوع في إسقاط النظام.
لكن ما يستحق التدقيق في أي مراجعة هو تحذير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 12 تشرين الأول (أكتوبر) من أن "احتلال إسرائيل لدمشق سيمزّق خريطة سوريا بالكامل"، مشدداً على أن أنقرة ستدافع عن السلام العاجل والدائم في سوريا.
أما بالنسبة إلى "هيئة تحرير الشام" فقد كان العام الفائت من أصعب الأعوام عليها من حيث الأحداث التي زعزعت بنيتها الداخلية واستجلبت لها غضباً شعبياً واسعاً. فقد انفجرت قضية العملاء التي أحدثت للمرة الأولى شرخاً في بنية الهيئة وتحديداً بين جناحيها الأمني والعسكري. وكان معظم المتهمين بالعمالة مع التحالف الدولي أو النظام السوري أو روسيا أو جهات خارجية أخرى من قادة الجناح العسكري. وتعرض هؤلاء للتعذيب الشديد أثناء التحقيق معهم، وأدّت وفاة أحدهم إلى اندلاع تظاهرات شعبية واسعة تطالب بإسقاط الجولاني (أحمد الشرع). وخسرت الهيئة اثنين من كبار قادتها، إذ انشق عنها كل من الرجل الثاني "أبو ماريا" القحطاني الذي قتل لاحقاً، والرجل الثالث "أبو أحمد" زكور.
ولم تكن علاقة الهيئة بتركيا على ما يرام خلال هذه الفترة. فقد كان الجولاني معترضاً على مساعي أنقرة للتقارب مع النظام السوري. وتبدّى ذلك في أكثر من حادثة، أهمها: حماية القوات التركية لزكور عندما حاولت الهيئة اعتقاله في مدينة إعزاز، وإصرار أنقرة على إعادة هيكلة فصيل صقور الشمال وما استتبعه ذلك من اشتباكات بين العمشات والحمزات من جهة والجبهة الشامية من جهة أخرى، علماً أنه كانت هناك شكوك في وجود تقارب بين الجبهة الشامية و"صقور الشمال" مع "هيئة تحرير الشام".
هذه الاشتباكات لم تنته إلا في 17 أكتوبر الماضي، وهي في الواقع امتداد لسلسلة طويلة من حالات الصراع والتنافس بين الهيئة والفصائل المدعومة من تركيا، حيث كانت توجه إلى الجولاني اتهامات برغبته في الهيمنة على منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون.
إذا، يمكن القول إن هذه العوامل المتمثلة في الشرخ الذي أحدثته قضية العملاء بين الجناحين العسكري والأمني، والتظاهرات التي خرجت ضد الجولاني، وخلافاته مع الفصائل الأخرى، لم تكن تشكل قاعدة مؤاتية لأي قائد عسكري من أجل شن عملية كبيرة تنتهي بإسقاط دمشق.
وكان معلوماً، وهو ما أثبتته تصريحات قادة الهيئة لاحقاً، أن أهداف الخطة المبدئية لعملية ردع العدوان كانت متواضعة وتقتصر على إبعاد قوات الجيش السوري عن خطوط التماس رداً على موجة القصف التي استهدفت إدلب. فكيف إذاً تدحرجت وتعاظمت وصولاً إلى السيطرة على حلب من دون أي اشتباكات تذكر، ثم السيطرة على حماه، وبعدها حمص ودمشق؟
في هذا الإطار، لا بد من الإشارة إلى أن قادة بعض الفرق في الجيش السوري أكدوا في مجالسهم الخاصة بعد سقوط النظام أنهم لم يتلقوا أي أوامر من القائد العام (بشار الأسد الذي كان في موسكو في تلك اللحظة) للتعامل مع رد ع العدوان، الأمر الذي تسبب بشل الجيش.
ومن الأسئلة التي ينبغي طرحها أيضاً، كيف انطوت فجأة الخلافات الفصائلية؟ ومن طواها؟ ولماذا أصبح التعامل مع "هيئة تحرير الشام" المصنفة على قائمة الإرهاب الدولية مقبولاً لدى المجتمع الدولي، وهي التي لم تكن ممثلة في أي مسار سياسي لحل الأزمة السورية بسبب تصنيفها هذا؟
وما يحتاج إلى تدقيق في هذا السياق، هو لماذا سارعت إسرائيل إلى الشروع في تنفيذ أكبر هجوم جوي في تاريخها لتدمير ترسانة الجيش السوري بالتزامن مع وصول أحمد الشرع إلى دمشق؟ وهل لهذا أي صلة بتصريح أردوغان عن احتلال دمشق؟
وبينما تشهد الساحات السورية احتفالات مستمرة بما سمي "تحرير سوريا" ويرسّخ الجولاني سلطته على البلاد بذريعة هذا التحرير، ستظل هذه الساحات عاجزة عن تقديم تفسير حقيقي وواقعي لما جرى خلال الـ 11 يوماً قبل 8 ديسمبر، وربما لا تتكشف أسرار ما وصف بأنه أكبر تحول جيوسياسي في المنطقة منذ عقود، قبل أن ترفع الدوائر الاستخبارية والديبلوماسية في العديد من عواصم الشرق والغرب طابع السرية عنها بعد سنوات طويلة.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|