محمّد بن سلمان… الحالم بتغيير وجه الشّرق
يحدث أن تتغلّب السفينة على الطوفان، فتصنع هي طوفانها المضادّ بنفسها. إنّه الطوفان السعودي الذي يتقدّم لجرف ترسّبات السنوات العجاف. يطيح بما ترسّخ مُجدِّداً، فالجدلية السعودية القائمة والثابتة هي تحقيق الجريان في المستنقعات، بحيث لا تغرق منطقة ولا شعوب في مياه آسنة، ولأنّ للتاريخ دورة دائمة الجريان، فإنّه يستحيل الاستحمام بماء النهر نفسها مرّتين. تلك العبرة ينطلق منها الاعتبار بعد عدّة عقود من ركود سياسي واجتماعي. خطّت السعودية مشروعها بنفسها، الذي تريد فيه إحالة منطقة الشرق الأوسط إلى “أوروبا الجديدة”، والعبور إليها يحتاج إلى سفينة يقودها قبطان. وعليه، فقد أصبحت الأمّة أو المنطقة سفينة واحدة، تبحر فيها الشعوب والدولة، ولهذه السفينة قبطان واحد هو “محمّد بن سلمان”.
كانت عملية طوفان الأقصى ذات هدفين: أوّلاً، إعادة إحياء “القضية الفلسطينية” وعدم إماتة الحلم في مواجهة مشاريع سحقها. وثانياً، قطع الطريق على اتّفاقات استراتيجية لتعبيد طريق السفينة إلى الزمن الآتي. أريد للطوفان أن يبعد السعودية عن دول المشرق، ولا سيما فلسطين، سوريا، ولبنان. لكنّه جاء بمفاعيل عكسية، فارتدّ على نفوذ إيران التي ادّعت السيطرة على أربع عواصم عربية، وإذ بها تشهد على انكفاء مشروعها بأمّ عينها، وهي التي غدت تبحث عن فرصة للحدّ من الضربات وفتح طريق التفاوض مع أميركا ترامب، وتراهن في ذلك على السعودية والتقارب معها، وعلى غيرها من دول الخليج. فطهران أوكلت إلى السعودية مهمّة خلق نقاط مشتركة مع إدارة ترامب بحثاً عن تهدئة في الإقليم. ارتضت طهران التراجع خطوات إلى الوراء والتسليم بتغيير توازنات وقواعد اللعبة، وكان لبنان أبرز الشاهدين من خلال تحقيق الرؤية السعودية في إنتاج العهد الجديد، المؤلّف من انتخاب جوزف عون رئيساً للجمهورية، وتكليف نوّاف سلام برئاسة الحكومة.
كانت هذه المعادلة سعوديّة منذ سنوات، فإذ بها تتحقّق بما يشبه حلماً لم يكن لأحد أن يتوقّعه. ليس ارتضاء طهران التراجعيّ يقتصر على لبنان، بل يشتمل على العراق وسوريا، على الرغم من عدم التسليم والاستسلام والسعي الدائم إلى الاحتفاظ بورقة “الحزب”، قوّته، وجوده وتأثيره، مع السعي المستمرّ إلى إعادة توفير خطّ إمداد يزوّده مالاً أو سلاحاً، بالإضافة إلى محاولة تغيير بعض الوقائع في سوريا. آلت التطوّرات إلى ما رسمته الاستراتيجية السعودية منذ سنوات، فإذا بالعودة تأتي بمفعول رجعي يعود إلى 14 عاماً، عندما قرّرت الرياض الانكفاء عن لبنان وسوريا والاهتمام بالمدى الحيويّ المحيط بها والمؤثّر على الأمن القومي السعودي.
منذ عام 2017 تكشّفت ملامح المشروع السعودي الجديد للمنطقة وعلى المستوى الدولي. تعرّض المشروع لهجمات كثيرة، لكنّ السفينة عبرت أمواجاً عاتية، وتفادت الطوفان وقفزت فوقه، بناء على رؤية أمير حالم، ومساعد على رأس الدبلوماسية السعودية فيه من الحيوية ما لم يعتَده ثقل المملكة من قبل. فقد كانت تتّسم الدبلوماسية السعودية بحركية بطيئة نسبياً، إلّا أنّ فيصل بن فرحان كرّس طبيعته “السريعة” ومباغتته في منهاجه للعمل الدبلوماسي. وهو الذي تنقّل بين عواصم كثيرة، مترجماً لفكرة الأمير ورؤية المشروع، بإعادة توجيه السفينة وتحديد مساراتها بسرعة زورق، فتنقّل بين بكين وموسكو، مع استمراره على الضفّة المقابلة، حيث أصبحت المملكة مقصداً للطرفين الدوليَّين اللذين ينقسم العالم من حولهما.
مضت السفينة بعد الطوفان، ورغب كثر في الصعود إليها أو الالتحاق بركبها. قفز كثيرون من سفن أخرى ليلوذوا بسفينة أبحرت، رافعة سارية حلم فيه روحية تجديد التأسيس، والبناء للغد. انطلقت الأشرعة من البحر الأحمر إلى النيل والمتوسّط. وهناك قبالة سواحل غزّة سيكون رسوّ على مرافئ سياسية امتداداً نحو ضفّة إعادة إحياء حلم الدولة الفلسطينية. وفي المتوسّط عينه شمالاً باتّجاه سواحل لبنان الممتدّ في عمق الشرق إلى سوريا، حيث تشقّ الجبال ما بينهما عبوراً نحو بردى على كتف دمشق، ومنه إلى الفرات حيث يشقّ عناقاً بين شام وعراق، ولا تقف السفينة عند حدود العاصي، هناك حيث تركّز السعودية مشروع إعادة إحياء الدولة الوطنية، بمنع تقسيم سوريا والحرص على كلّ مكوّناتها وتوفير الحماية لهم وانخراطهم في بناء مشروع الدولة، على ضفّتي العاصي شرقاً وغرباً.
حركة بن فرحان الأخيرة، على المزيج المتوائم فوق جغرافيا لبنان وسوريا، رسمت ملامح مشروع جديد، اختصره الرجل بالإصلاح والبناء والتطوير، بما يعيد العرب إلى المنطقة، أو يعيد المنطقة التي تغرّبت عنهم إليهم. كانت الزيارة تتويجاً لمسار طويل، ففي لبنان تحقّق ما كان مستحيلاً، لنُنتشل من قاع إلى سطح ماء، أو متن السفينة، وإلى سوريا التي احتوتها المملكة لما تمثّله من نقطة استراتيجية تتّصل بجغرافيات المنطقة وأبعد. هناك مكث بن فرحان على مدى أكثر من 4 ساعات مع أحمد الشرع، تخلّلها بحث معمّق بمشاريع ورؤى، وتعاون لمواجهة كلّ التحدّيات القائمة، عبوراً إلى السفينة مجدّداً، وهي تغصّ بالعابرين.
خالد البواب - أساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|