الشّرع من إدلب إلى الرّياض: الحج السياسيّ..
أن تسارع السعودية، منذ اللحظة الأولى، إلى احتضان التحوّل السوريّ، فذلك يكشف تبصّراً في قراءة ما هو مباغت غامض في المفترقات التاريخية الصعبة. غير أنّ رعاية المملكة السعودية المواكبة ساعة بساعة للحدث منذ يوم سقوط النظام السابق، ومواكبتها يوماً بعد يوم لسوريا الجديدة، تحيلاننا إلى مواعيد سابقة في تاريخ المنطقة في السنوات الأخيرة كانت الرياض سبّاقة في ملاقاتها والتعامل معها وإعادة إنتاجها أصلاً يُضاف إلى حساب الأرباح لا الخسائر في موازين المنطقة. لاقت الرياض اللحظة السورية على عجل. قال مصدر سعودي: “لو لم نسارع لعمّت الفوضى”.
في 8 كانون الأوّل 2024 دخل أحمد الشرع دمشق معلناً سقوط نظام حكم سوريا طوال 52 عاماً. بعد أقلّ من شهرين، في 29 كانون الثاني الماضي، أختير رئيساً للبلاد. وفي الأوّل من شباط توجّه إلى السعودية، الوجهة الخارجية الأولى له رئيساً للبلاد. بدا أنّ في تلك الحكاية منطقاً، يكاد أن يكون غير مفاجئ، يعيد الأمور إلى نصابها. ترجع سوريا إلى الجغرافيا قبل التاريخ، ويرى رئيسها في السعودية، التي وُلد فيها، “حجّاً” سياسيّاً له معانيه السوريّة الخالصة، ويسلّط مجهراً على بوصلة دمشق الجديدة، إذ تتخلّص من هيمنة مشؤومة، وتتحرّر داخل حاضنة واسعة تملك الرياض مفاتيحها.
قبل أسابيع أبدى مصدر سعودي مراقب إعجابه بعزّة النفس السوريّة وفريقها الحاكم الجديد. لاحظ أنّه على الرغم من “النكبة” التي تعيشها البلاد إثر حرب مدمّرة، معطوفة على نهب ممنهج مارسه النظام المخلوع طوال عقود، لم ينتهج الشرع وفريقه أيّ لهجة يُشتمّ منها ضعفٌ أمام العالم واستدرار لعطفه. لا يتعلّق الأمر بطباع كِبَر فقط، بل بإدراك قادة سوريا الجدد لأهمّية بلدهم في تاريخ المنطقة، ديناً وثقافة وتقاليد وتراثاً، ولأهمّية البلد في التوازنات الجيوستراتيجيّة في الشرق الأوسط. والأرجح أنّ في تلك الخصال ما دفع الرياض من دون تردّد إلى تقديم الدعم جوّاً وبرّاً، وحمل “قضية” سوريا إلى محافل العرب والعالم.
يمثّل اللقاء إعلان تحوّل نهائي في موازين القوى في الشرق الأوسط، ويحتاج إلى تموضع مشترك تلتحق به بلدان المنطقة
معجب برؤية 2030
يُسجّل للشرع أنّه عرف سريعاً، وهو الذي ما برح يتوجّه لمكّة قبلة المسلمين في صلواته منذ صغره، أنّ الرياض هي أولى قبلاته السياسية ورقم أساسيّ في معادلة بناء سوريا وإعادة تموضعها على خارطة العالم. عبّر في مناسبة تلو أخرى عن إعجابه برؤية 2030 التي أُطلقت في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز برعاية وقيادة وليّ عهده الأمير محمّد. لم تكن تلك المواقف تندرج داخل “ألفباء” دبلوماسيّة، بل باتت عُدّة شغل للحكومة المؤقّتة، تلهمه وفريقه التحرّر من جوف الأيديولوجيّات، والالتحاق بالعالم وواقعه وفق قواعد النموّ والتطوّر والمصالحة الكاملة مع شروط العصر.
السعودية
حدثُ استقبال وليّ العهد السعودي للرئيس السوري في الرياض ليس خاتمةً لمسار مواكبة سعودية لحدث ما زالت عواصم قريبة وبعيدة تنظر إليه بحيرة وتحفّظ. يمثّل اللقاء إعلان تحوّل نهائي في موازين القوى في الشرق الأوسط، ويحتاج إلى تموضع مشترك (وفق معادلة سين – سين التي ابتكرها اللبنانيون) تلتحق به بلدان المنطقة، لإعادة وضع نقاط جديدة على الحروف. فهمت طهران ذلك الجديد في المنطقة باكراً. وتسعى موسكو إلى إيجاد مكان لها على رقعة اللعب الجديدة. وأدركت أوروبا، غير البعيدة عن سوريا، جدارة التحوّل، وتسابق الوقت للمساهمة في رفده وصيانته داخل المشهد الدولي العامّ.
الانطلاق من بوّابة الرّياض
من بوّابة الرياض جال قبل أسابيع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في عواصم عدّة في المنطقة. ومن بوّابة الرياض اجتمع وزراء خارجية من تركيا وبلدان عربية وأوروبيّة في 12 كانون الثاني في مؤتمر يتعلّق بسوريا حضره الشيباني. ومن بوّابة الرياض تطلق السعودية في لقاء وليّ العهد والرئيس السوري أجنحة جديدة لسوريا ورئيسها، وتؤكّد واقعاً، بات عربيّاً، أماطت اللثام عنه برقيّات زعماء المنطقة التي تهنّئ الشرع بتعيينه رئيساً لبلاده، وتثمّن ما أعلنه من أجندة طريق لنقل سوريا من طور إلى آخر.
أن تسارع السعودية، منذ اللحظة الأولى، إلى احتضان التحوّل السوريّ، فذلك يكشف تبصّراً في قراءة ما هو مباغت غامض في المفترقات التاريخية الصعبة
سيُبنى على زيارة الشرع للسعوديّة. بات الرئيس السوري يتمتّع باعتراف إقليمي (تركي – سعودي – قطري خصوصاً) يضاف إلى شرعية داخلية يَعِدُ ببنائها مع كلّ المشارب السورية وفق أجندة واضحة المفاصل. سيُضاف الملفّ السوري إلى أولويّات المملكة على طاولة التداول مع القوى الكبرى في العالم، وفي مقدَّمها الولايات المتحدة في ظلّ إدارة الرئيس دونالد ترامب. كان الأخير قد التفَّ على سؤال بشأن بقاء قوات بلاده في سوريا، وهو الذي عبّر مراراً عن توق لسحبها من ذلك البلد. قال: “سنتّخذ قراراً”.
عشيّة سقوط دمشق كان نصح إدارة بايدن بعدم التدخّل، فهي “ليست حربنا”. بات اليوم يحتاج إلى معطيات جديدة، ودمشق تنتظر من الرياض نقل تلك المعطيات التي تحرّر واشنطن وترامب معاً من عقائد قديمة، وهو ما من شأنه تحرير سوريا من قبضة عقوبات يفترض أن ترحل برحيل المتسبّب بها.
لم يكن الاستقبال السعودي هو الأوّل للشرع في الأوّل من شباط 2025، فذلك تفصيل بدا حتميّاً في مسار أراد الأمير محمد بن سلمان أن يدفع به من دون تردّد. خرج أبو محمد الجولاني من إدلب باتّجاه دمشق في 27 تشرين الثاني 2024. مرّ وصحبه عبر حلب وحماة وحمص قبل دخول دمشق في 8 كانون الأوّل. وحين وصل عاصمة سوريا، كان بيان سعودي رسمي يستقبله “مرحّباً” بالتحوّل الكبير. كان ذلك قبل أسابيع من استقبال أحمد الشرع رئيساً لبلاده في عاصمة المملكة “من جديد”.
محمد قواص-اساس
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|