خطّة ترامب الغزّيّة: لعبة قمار أم روليت روسيّة؟
لا يعرف دونالد ترامب فلسطين. لا يدرك أنّ دعوته للفلسطينيّين إلى الرحيل الطوعي عن قطاع غزّة والضفّة الغربية ستزيدهم عناداً وتمسّكاً بأرضهم. حرب الإبادة الجماعية التي شنّها شريكه المطلوب للعدالة الدولية، بنيامين نتنياهو، سحقت مدنهم والبيوت والأرواح، لكنّها لم تنَل من عزائمهم ولم تفرض عليهم الاستسلام المذلّ. بل دفعتهم إلى صمود عجائبي لم يشهد التاريخ مثيلاً له وسط أهوال لا سابق لها. إحساسهم بأنّهم تُركوا وحدهم، وأنّ العالم مصمّم على محوهم، سيجعلهم أكثر ثباتاً وإصراراً على استرجاع حقوقهم المسلوبة.
ارتباط الفلسطينيين بأرضهم قد يبدو غريباً وغير مفهوم للبعض. لكنّ الأمر لا يتعلّق بالجغرافيا ولا بالملكية العقارية. إنّه ارتباط عميق بالهويّة، والأرض هي نسج من نسيج التاريخ والثقافة والذاكرة الجمعيّة. هذا التعلّق هو سرّ العناد الفلسطيني والتضحيات الجسام التي لم يبخل بها الفلسطينيون، سواء كان انتماؤهم العقائدي الديني إسلاميّاً، مسيحيّاً، أو لادينيّاً، أو السياسي فتحاويّاً، حمساويّاً، جهاديّاً، وطنياً، قومياً، أو ماركسياً.
لم يترك الاحتلال وسيلة إلّا وجرّبها ضدّ الفلسطينيين لدفعهم إلى ترك أرضهم. لم يفلح إلّا جزئيّاً. حاول جعل حياتهم مستحيلة، فابتكروا الحلول لجعلها ممكنة وقاوموا بالفعل البسيط للاستمرار والحياة. لجأ إلى الإبادة البشرية، فلم يبخلوا بالفداء بأغلى ما عندهم. قرّر تدميرهم دماراً شاملاً، فردّوا بصمود لا يُضاهى.
لم يترك الفلسطيني أرضه إلّا مرغماً، لكنّه حملها معه نَدَباً في الروح والجسد لا يُمحى. الوطن ليس مساحة جغرافية، إنّما هو ذاكرة حيّة تتجدّد كلّ يوم. عودته في الأمس إلى بيوته المدمّرة في شمال غزة، هي إعادة إنتاج لفعل البقاء والمقاومة. هي إعادة بناء العلاقة مع المكان ومحاولة لإعادة تشكيل الجغرافيا وفق إرادته وحده. هي عودة إلى تاريخه. هي مشهد معكوس لمشهد النكبة ورفض لنتائجها والرفض القاطع لتكرارها.
سمسار العقارات
سمسار العقارات دونالد ترامب يرشّ مجدّداً الملح على الجرح الفلسطيني عبر الدعوة إلى تهجير كلّ أهالي غزة بشكل دائم، وتوزيعهم في دول عدّة وبناء منازل لهم بتمويل من دول المنطقة “التي تملك الكثير من المال”. ويتعهّد أمام المجرم المطلوب للعدالة الدولية نتنياهو بتنظيف القطاع من المتفجّرات الأميركية الصنع والركام الذي خلّفته حرب الإبادة، ليقيم على شواطئه التي لا تغيب عنها الشمس، مناطق سياحية وفنادق فاخرة لأغنياء العالم على طراز الريفييرا وهاواي وبورتوريكو.
ما أدلى به ترامب لم يجرؤ حتى عتاة الصهاينة على البوح به. وسبق للمنظومة السياسية الإسرائيلية نفسها أن حظرت حركة “كاخ” بزعامة مائير كاهانا عندما حضّ علناً على تهجير الفلسطينيين. ومن شأن صدور دعوة كهذه عن رئيس أقوى دولة في العالم أن يمنح الترانسفير شرعية كاملة، وأن يبرّر للفاشيّين الإسرائيليين المطالبة بأن يشمل التهجير الضفة الغربية علناً، وأن يدرج بنداً رسمياً على جدول الأعمال الحكومي، ومادّة حيوية في النقاش الانتخابي لكسب جمهور المتطرّفين واليمينيّين. وهكذا يسقط حقّ الفلسطينيين في أرضهم وتقرير مصيرهم في الدوائر السياسية الأميركية والإسرائيلية واليمينية الغربية.
ورقة للمساومة
ما إن طُرح المشروع علناً وكُرِّر مرّات عدّة، حتّى وضع ترامب ورقة جديدة على طاولة الشرق الأوسط للمساومة عليها وتحقيق المكاسب. فمن يدعم المشروع عليه المشاركة في دفع الثمن والتكاليف، ومن يعارضه يتوجّب عليه تقديم تنازلات كبيرة في مقابله، لا سيما في ذروة استحقاقات وتسويات كبرى يجري “طبخها” في المنطقة، وفي مقدَّمها إبرام الصفقة الكبرى مع المملكة العربية السعودية.
لكنّ ما يطرحه ترامب ليس لعبة قمار تُدار في أحد كازينوهاته في لاس فيغاس تنتهي برابح وخاسرين يفقدون جزءاً من رصيدهم المالي، بل هي لعبة “روليت روسيّة” قد تطيح بأنظمة ودول ورؤوس كبيرة. ذلك أنّ مصر والأردن المعنيّتين بشكل مباشر بالترانسفير المزمع، واللتين ترفضانه بشدّة، تعتبران هذه القضية بمنزلة حياة أو موت.
مسدّس محشوّ بالرّصاص على الطّاولة
على الرغم من الضائقة الاقتصادية وأزمة المديونية الخانقة اللتين يعاني منهما البلدان، فإنّ فرض الأمر عليهما يصير، على حد قول المحلّل العسكري الإسرائيلي أمير أورن، كمن يضع مسدّساً محشوّاً بالرصاص على طاولة الملك عبدالله الثاني والرئيس عبدالفتّاح السيسي. وهما لا ينويان الانتحار كرمى لعينَي ترامب ومشاريعه الجنونيّة.
من جهتها تملك الرياض مروحة واسعة من الخيارات والأوراق القويّة التي تسمح لها بالمناورة وعدم الرضوخ لمسار تآمريّ صارخ ضدّ الفلسطينيين. ومن شأن مشروع كهذا أن يعيد تفجير غزّة والمنطقة ويقضي على أحلام ترامب بالسلام ونيل جائزة نوبل.
الحاكم المطلق للبيت الأبيض كان ولا يزال جاهلاً في شؤون المنطقة، ولا سيما في فهم تعقيدات القضية الفلسطينية. فهو لم يكلّف نفسه عناء شرح القانون أو الحقّ اللذين يشرّعان الاستيلاء على أرض وبلد وطرد أهله.
ليسوا هنوداً حمراً
ليس سكّان غزة هنوداً حمراً أقرّ الكونغرس تهجيرهم عام 1830 استناداً إلى عقلية المستعمرين البيض القاضية باقتلاع “الملوّنين” من أرضهم وديارهم والحلول مكانهم. وإن كانت هذه العقلية الاستعمارية لا تزال سائدة في دوائر صنع القرار في الغرب، وكشفت عن أنيابها مع وصول عتاة المتطرّفين والعنصريّين إلى سدّة القرار.
الشعب الفلسطيني الذي صمد منذ سبعين عاماً في وجه أعتى أنواع النكبات والنكسات وأشرس احتلال ومحاولات شطب وتهجير وتطهير عرقي، وتجاوز قطوع حرب الإبادة على مدى 15 شهراً متواصلة، لن يستسلم بسهولة على الرغم من ضائقة العيش والحصار الخانق وروائح الموت من حوله. لكنّ التحدّي الترامبيّ الجديد يظلّ شديد الخطورة، في غياب مشروع فلسطيني موحّد لمواجهته.
أمين قمورية-أساس
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|