مسار صياغة البيان ومضمونه: أول اختبار لقدرة الحكومة على استعادة الثقة
الملياردير سوروس المتسلّل إلى حكومة نوّاف سلام
لرجل الأعمال الأميركي جورج سوروس حصّة في تشكيلة نوّاف سلام الحكوميّة، هكذا تقول نظريّة المؤامرة الجديدة في الساحة. وهو تسلّل إليها -بحسب هذه النظريّة الغريبة نفسها- عبر مجموعات المجتمع المدني وأوساط ثورة 17 تشرين الأوّل، ومنهم طبعاً منظمة كلنا إرادة، مجموعة الضغط التي يجري تصويرها كمجموعة من "الشياطين الاقتصاديين". ولسوروس مطامع شرّيرة وأهداف: شطب الودائع وتفليس المصارف ووضع اليد عليها وتدمير الاقتصاد الحر ونزع السريّة المصرفيّة. وتستعيد نظريّة المؤامرة هذه التاريخ انتقائيًا. فاهتمام سوروس بالشأن اللبناني قديم. هو موّل ثورة 17 تشرين الأوّل نفسها، فأقفلت المصارف أبوابها، وزجّ بجيش المستشارين –ومنهم أعضاء كلنا إرادة الشريرة إياها- لدفع لبنان للتخلّف عن دفع ديونها. ثم حصلت الأزمة. لهذا السبب، هناك أزمة اليوم، بحسب نظريّة المؤامرة.
قد تبدو هذه السرديّة -للوهلة الأولى- أسخف من أن تُناقش أو أن يُردُّ عليها. وهذا صحيح، إذا ما وضعناها في ميزان النقاش الاقتصادي العلمي والرصين. غير أنّنا بتنا في زمنٍ يسهُل فيه نشر الضوضاء على وسائل التواصل الاجتماعي، بعناوين وشعارات متناثرة لا تُطرح كمحاججة متماسكة. بل كرشقاتٍ من الرصاص العشوائي والفوضوي. ولإعلام المصارف منابره، الأكثر تمكّنًا ورواجًا. وله سرديّاته التي جرى تكرارها بشكلٍ ممجوج على مرّ السنوات الخمس الماضية. فتنتظم نظريّة المؤامرة المستجدّة والركيكة هذه مع سرديّات لوبي المصارف الأكثر ركاكة، وتتناسق معها. ويختلط غيظ المستوزرين –المُبعدين من التشكيلة- مع خوف لوبي المصارف من المرحلة المقبلة. هنا، يصبح من الممكن أن يسوَّق ما لا يُصدّق في العادة. ويصبح من الواجب تفنيد النظريّة.
النظريّة الركيكة والمستوردة
نظريّة المؤامرة، المرتبطة بجورج سوروس، ليست جديدة بالمطلق. بل هي إعادة تدوير لنظريّات مؤامرة سابقة، جرى اجترارها خلال السنوات الماضية. وهي ليس اختراعًا لبنانيًا بالمناسبة، بل كانت مُنتجًا مستوردًا ومستنسخًا من خطابات أقصى اليمين المُحافظ في الغرب.
في الغرب، يلجأ اليمين المحافظ والمتطرّف في العادة إلى نظريّة مؤامرة توحي أنّ هناك مليارديرًا، هو جورج سوروس، يمسك بمفاصل الاقتصاد العالمي ومراكز القرار السياسي. وهو، انطلاقًا من إيديولوجيا ليبراليّة أو يساريّة، يملك مخططاتٍ لإغراق الدول الغربيّة بالمهاجرين واللاجئين، وتغيير ثقافتها المحليّة، وإحلال سكّان غرباء مكان السكّان الأصليين. وللسبب نفسه، يريد سوروس أن يُغرق الغرب بـ "موبقات أخلاقيّة" أخرى، كالمثليّة، التي توازي في خطورتها وجود المسلمين أو العرب في الغرب. هي بالمختصر المفيد نظريّة حقد وكراهية ضد الآخر، يلجأ إليها اليمين المتطرّف لتفسير المخاطر الداهمة ضد الثقافة المحليّة، ووضها في سياق تآمري.
ويمكن لليمين المحافظ هنا أن يضع في السياق نفسه تبريره للتعاطف مع الأنظمة السلطويّة في الدول النامية، طالما أن "الثورات" الملونة هي نتاج تمويل سوروس، وهي جزءٌ من لعبته لتسويق أفكاره. ويصبح التعاطف مع بوتين مثلًا، مفهومًا في إطار هذه النظريّة نفسها، طالما أن الرجل يحارب المثليّة والليبراليّة والثورات الملوّنة في شرق أوروبا وكل موبقات سوروس إيّاها.
في واقع الأمر، جورج سوروس ملياردير له ثروته بالفعل، لكنّه لا يتحكّم باقتصاد الكوكب وأسواقه الماليّة. وله، كسائر المليارديرات، جناحه "الخيري"، منظمة "المجتمع المنفتح" التي تملك برامج تمويل. لكن تضخيم دور سوروس بهذا الشكل، يبدو هزليًا قياسًا بتأثيره الفعلي. وفي الأوساط الاقتصاديّة الجديّة، لا تؤخذ سرديّات اليمين المتطرّف هذا على محمل الجد، ولا يُعتد بها في أي محاججة رصينة. أقصى ما يمكن فعله بهذه النظريّة، هو اجترارها في أحد برامج "فوكس نيوز" قبيل حملة انتخابيّة ما، لا أكثر ولا أقل.
استيراد النظريّة إلى لبنان
لقد كانت المنصّات الإعلاميّة المملوكة من أحد كبار المصرفيين أوّل وأبرز من سوّق لاستيراد هذه النظريّة إلى لبنان، منذ عدّة سنوات. سوروس، الليبرالي أو اليساري لا فرق، حاقد لسبب ما على المصرفيين اللبنانيين. وله ذراعه الطويلة في المجتمع المدني اللبناني، التي استخدمها خلال الثورة، والتي أفضت إلى إقفال المصارف. وهنا، في هذه السرديّة، ثمّة مكانة مركزيّة للحظة توقّف لبنان عن سداد ديونه السياديّة، والتي كانت أصل البلاء والشرور. وغالبًا ما يجري التصويب على أحد المستشارين في وزارة الماليّة، بوصفه مسؤولًا عن "النصيحة" التي أفضت إلى التوقّف عن الدفع. ومواجهة هذه المؤامرة تكون بالتمسّك بالمصارف، في مواجهة محاولات تفلسيها وتدميرها.
لا حاجة للكثير من الشرح، لتفنيد المغالطات في تلك السرديّة. لقد توقّف لبنان عن دفع سندات اليوروبوندز منذ آذار 2020، بينما توقّف المصارف عن تسديد الودائع منذ تشرين الأوّل 2019، أي قبل أربعة أشهر. ولم تكن الدولة اللبنانيّة قادرة على اقتراض سنت واحد من الأسواق الدوليّة قبل تلك اللحظة، ومنذ سنوات عديدة، لعلم المستثمرين بعمق الأزمة الماليّة القائمة. ومنذ العام 2011، كان عجز ميزان المدفوعات يأكل من احتياطات مصرف لبنان الدولاريّة، الذي عمد إلى امتصاص دولارات المصارف للتعويض عن خسائره.
لقد كان الامتناع عن دفع الديون السياديّة نتيجة لا سبباً للأزمة. ولذا كان قرار التخلّف عن الدفع موضوع إجماع سياسي، كانت لحظة كبيرة، ولم يكن القرار نتيجة "نصيحة" من مستشار ما كما يُشاع. أمّا الثورة، فلا شأن لها بكتلة خسائر مصرفيّة تراكمت على مرّ السنوات السابقة لها، قبل أن تتذرّع المصارف بالأحداث الأمنيّة لتقفل أبوابها وتمتنع عن الدفع. ثمّة خفّة كبيرة في اعتبار الثورة، أو قرار التخلّف عن الدفع، سبباً لما نمرّ به. وثمّة مصالح تدفع لتسويق هذه النظريّة: إعادة تقديم سرديّة جديدة، تعفي النخب الماليّة والسياسيّة من مسؤوليّاتها في ما يخص أسباب الانهيار.
النقطة الأهم، هي أنّ من يطرح هذه النظريّة لم يقدّم دليلًا واحدًا على اتصال مجموعات الثورة، وخصوصًا كلنا إرادة، بسوروس أو برامج تمويله. هذا الزعم، لم تقدّمه سوى منصّة إعلاميّة مملوكة من المصرفي الشهير إياه، ولم يرددها لاحقًا سوى إعلاميون أو نوّاب تلقوا الدعم المصرفي نفسه.
نعم، يمكن العودة للسؤال عن أسباب استمرار الانهيار المالي. لم تكن المشكلة التوقّف عن دفع السندات السياديّة، بل عدم إتباع القرار بتنفيذ خطّة تعافي ماليّة شاملة، يكون في صلبها مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي. ومن منع استكمال هذا المسار، لم يكن من صفوف الجماعات التغييريّة طبعاً، بل كان اللوبيات المصرفيّة التي أطاحت بشكلٍ متكرّر بكل وأي محاولة لإعادة هيكلة المصارف. هؤلاء بالذات، هم من أعاقوا حتّى اللحظة استكمال تنفيذ الشروط الإصلاحيّة، التي تفاوض عليها لبنان مع صندوق النقد الدولي.
إعادة إنتاج النظريّة
يُعاد اليوم إنتاج النظريّة الركيكة نفسها. ويجري ربطها بحكومة نوّاف سلام، وبمجموعات التغيير المحيطة به. ثمّة لوبي مالي ومصرفي خائف، ومتوجّس، ليس من هذه الحكومة فقط، بل من السياق السياسي القائم بأسره. الخطر على مصالح هذا اللوبي لا يقتصر على إسم نوّاف السلام، الآتي من خارج التركيبة السياسيّة التي اعتاد هذا اللوبي على التعاطي معها. ثمّة مرحلة مختلفة، ستشمل الحاجة إلى خطّة إعادة الإعمار، واستقدام الدعم الخارجي، الذي بات مربوطًا بالإصلاحات التي تأجّل تنفيذها منذ العام 2019. وثمّة خوف من الزخم الدولي المحيط بهذه المرحلة، والذي يختلف كثيرًا عن الدعم الخارجي الخجول الذي حصلت عليه حكومة حسّان دياب عام 2020، حين كانت تفاوض صندوق النقد.
يستعيد هذا اللوبي نظريّات المؤامرة نفسها ويجترّها. ويعيد تسويق سرديّات اقتصاديّة ركيكة وضحلة لا تصلح لتفسير ما جرى طوال الأعوام الخمسة الماضية. ثمّة قدر كبير من السطحيّة في اعتبار الثورة مسؤولة عن أزمة المصارف، أو في اعتبار المصارف اللبنانيّة مفعمة بالسيولة والملاءة اليوم، كي يتم القول أنّ هناك من يريد "تفليسها" ووضع اليد عليها. المصارف لا تحتاج إلى من يفلّسها اليوم، بعدما تراكمت في ميزانيّات القطاع خسائر يتجاوز حجمها الأربع مرّات حجم الاقتصاد المحلّي برمّته. و"حمايتها" من إعادة الهيكلة، أو الإصلاحات، تعني تأبيد الأزمة الماليّة بدل معالجتها.
علي نور الدين - المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|