نوّاف سلام بين جنازتين
بين جنازتين، سيكتب نوّاف سلام بيان حكومته الوزاريّ. جنازة أولى، متأخّرة 20 عاماً. وجنازةٌ أخرى، متأخّرة 5 أشهر. وهو نحارُ به هذه الأيّام: هل هو حانوتيّ التاريخ، ليدفن السنّية السياسية والشيعية السياسية في أسبوعٍ واحد؟ أم البستانيّ الذي سيزرع بذور مرحلة جديدة… لبنانيّة؟
قديماً، كان العرب لا يدفنون المقتول قبل الأخذ بثأره. وثأر الرئيس رفيق الحريري تأخّر 20 عاماً. وفجأةً، تدفّق نهر العدالة الإلهية، فجرفت من اتّهمهم أهل القتيل وعشيرته السياسية منذ اللحظة الأولى. بعضهم قتلوا، وبعضهم “سقطوا” من كراسي حكمهم، وتناثروا بين جهات الأرض، وبلادها الباردة. من قصر المهاجرين، مروراً بموسكو وصقيعها السياسي، وليس انتهاءً بالقصير وحارة حريك… وهي المرّة الأولى التي سينام فيها الشهيد الحريري مطمئنّاً. وقد أدّت العدالة الإلهية واجبها، إذ ساقت المُدانين باغتياله إلى حبل التاريخ.
بعد سنوات سياسية عجاف، قد يعلن الرئيس سعد الحريري، نجل المغدور، أنّه عائدٌ إلى السياسة بعد انقطاع. وقد بدأ المحيطون به يسرّبون أنّهم سيشكّلون لوائح انتخابية العام المقبل، وأنّ “تيّار المستقبل” لن يستطيع الصمود دورةً انتخابية أخرى خارج مجلس النواب والسلطة: it’s now or never.
في انتخابات 2022، كان تعليق الحريري عمله السياسي طازجاً. وبدا أنّ التغييريّين لا يخيفون الحريريّين. لكنّ لوائح مدعومة من نوّاف سلام، ومن يقف خلفه وأمامه، قد تكون مراسم نهاية سياسية للحريريّة السياسية في انتخابات 2026.
هذه هي الجنازة الأولى، بوجهَيها. التي يريد الحريريون مشهدها في وسط بيروت، يوم الجمعة، تحذيراً إلى الداخل والخارج، يقول إنّ الدم الذي سال قبل 20 عاماً، لا يزال يتدفّق في عروق أهل السنّة اللبنانيين. في حين ينظر البعض إلى المشهد بوصفه “نوستالجيا” لبنانية. خصوصاً أنّ من سيدخلون لوائح الشطب في 2026، ما كانوا قد ولدوا حين فجّرت خليّة الألوان المتقاطعة بين الداخل والخارج، الحمر والصفر والزرق والأرجوانيّة… أطنان الحقد في موكب الحريري الأب.
جنازة شباط… والجنوب
الجنازة الثانية أكثر سطوعاً. ففي 23 شباط، سيدفن “الحزب” الشهيد السيّد حسن نصرالله. الذي قتله بنيامين نتنياهو في قلب ضاحية بيروت الجنوبية في 27 أيلول الماضي. ومازال القاتل يحتلّ أجزاء من جنوب لبنان حتّى هذه اللحظة. ويقصف مجموعات “الحزب” من يارون جنوباً إلى جنتا البقاعية. متسلّحاً باتّفاق وقف إطلاق النار و”حرّيّة الحركة”، التي وافقت عليها قيادة “الحزب” وإيران، وسمحت لممثّلي الدولة اللبنانية بالتوقيع عليها وتنفيذها.
خصوم المشروع الإيراني يقرأون 23 شباط باعتباره لحظة “دفن” الشيعية السياسية. تلك المرحلة التي أصاب لبنان “الطلق” بها في لحظة الجنازة الأولى، 14 شباط 2005. ووُلِدت حين خرج جيش بشّار الأسد من لبنان في 26 نيسان من العام نفسه. وها هي تودّع اللبنانيين قبل أن يسمح لها عمرها (21 عاماً) بالمشاركة في “انتخاب” نظام لبناني جديد. كانت قاب قوسين أو أدنى من محاولة البدء بكتابته. قبل أن يتكأكأ عليها الانهيار الاقتصادي والمالي والمصرفي الأقسى في تاريخ المنطقة (2019)، وتدمير نصف العاصمة في أقوى تفجير غير نووي في التاريخ (2020)، وحرب غير مسبوقة أبادت قرى الجنوب والبقاع وأجزاء من العاصمة وضاحيتها الجنوبية (2024).
البيان الوزاريّ.. والطّائف يستعيد ألَقَهُ
يكتب نوّاف سلام بيانه الوزاري بين هاتين الجنازتين. للرجلين اللذين رافقا اتّفاق الطائف منذ ولادته. فكانت بحبوحة التسعينيات حين تعاونا، وتفجير البلاد حين اختلفا:
الأوّل كان مفاوضاً في كواليسه، ومنفّذاً له بين 1992 و2004، بنسخته السورية البشعة. الأمنية العسكرية الظالمة. وأيضاً كان شهيدَه، ليفتح القاتل الباب كي تمرّ عاصفة المشروع الثاني.
والثاني كان مستفيداً منه، لضمان صعود حزبه عسكرياً وسياسياً. تحت حجّة “مقاومة إسرائيل”. التي سمحت له بتحويل لبنان قاعدةً عسكرية كان على جدول أعمالها قلب أنظمة الحكم في دول عربية. وكان لها بعضُ ما أرادت: “4 عواصم” تفاخر جنرالات إيران بوقوعها تحت قبضتهم.
يأتي نوّاف سلام في لحظة هزيمة المشروع الإيراني، ليس في لبنان وجنوبه وحسب، بل في سوريا والعراق واليمن أيضاً. وفي لحظة ولادة مشروع عربي جديد، بقيادة السعودية. التي أعطت اسم إحدى أجمل مدنها “الصيفية”، الطائف، لدستور لبنان المُجَدّد، وعقده الاجتماعي. ذلك الذي يحمله نوّاف سلام أينما ذهب، ويرفعه عالياً، كما لو أنّه يعيد إليه الحياة.
نهاية مرحلتين… بداية ماذا؟
سيكون البيان الوزاري مرآة تعكس مفاعيل الجنازتين. فدم الرئيس الشهيد رفيق الحريري ظلّ يحرّك السياسة في لبنان طوال الأعوام العشرين الماضية، منذ أن قَتَلَهُ خليطٌ من التعاون الأمنيّ الإيراني – اللبناني – السوري. وساهم هذا الدم في صناعة حكومات برؤسائها ووزرائها وتعييناتها وحضورها الإقليمي والدولي… لكن تنتهي مفاعيله لحظة وصول نوّاف سلام إلى السراي الحكومي. لأنّه رجلٌ من خارج بيئة الحريريّين السياسية. ومن الواضح أنّه يمارس “قطعاً” مع المرحلة الحريريّة.
أمّا دم الشهيد السيّد حسن نصرالله، فلم يستطِع أن يحصّل لفريقه السياسي أكثر من وزارة المالية، لـ15 شهراً فقط. تبدأ بعدها المداورة الوزارية التي وعد بها الرئيسان، جوزف عون ونوّاف سلام.
ذلك أنّ قتل الحريري كان اغتيالاً لشخص، احتاج القاتل عقدين ليقتل إرثه السياسي. في حين أنّ قتل نصرالله هو اغتيال لمرحلة كاملة، سيحتاج بعدها شيعة لبنان عقدين كي يعيدوا بناء ما تهدّم، في العمران والاجتماع والسياسة.
ننتظر نوّاف سلام بلهفة، كي يرسم لنا شكل المرحلة الجديدة. وما تناثر من أحاديثه، يقول إنّنا أمام مرحلة “لبنانية”. لا سنيّة ولا شيعية ولا مارونية… مرحلة تقفل باب الجنازات التي أدمنها اللبنانيون وكرهوها. وتجعل الحانوتيّ الكبير، بستانيّاً، يزرع في 15 شهراً، بذور الورود. لعلّها تتفتّح بإلغاء الطائفية السياسية، وقانون انتخابات عادل، وهيكلة عادلة للمصارف، وإعادة ما أمكن من الودائع، وتحرير الجنوب، وإعادة إعماره، وحصر السلاح بيد الدولة…
محمد بركات - اساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|