متى يلحق العراق بالتغيير في لبنان وسوريا؟
قلَب هجوم السابع من أكتوبر 2023 الشرق الأوسط رأساً على عقب. سقط نظام “الحزب” في لبنان إلى حدّ بعيد، بما هو نظام هيمنة “الحزب” التامّة على البلاد. مهّد مقتل حسن نصرالله وتحطيم الكادر التنظيمي العسكري لـ”الحزب”، الطريق أمام ولادة معادلة سياسية ما كانت ممكنة قبلاً. فانتُخب قائد الجيش اللبناني جوزف عون رئيساً للجمهورية، ونجح القاضي نوّاف سلام في تشكيل حكومة لا تشابه سابقاتها، وببيان وزاريّ يشهد هو الآخر لتراخي قبضة “الحزب” على الخطاب السياسي.
أفضت هزيمة “الحزب” إلى سقوط نظام الأسد في سوريا، على يد جبهة تحرير الشام، بتنسيق مباشر مع تركيا حينها. فمنذ يوم تفجيرات البيجرز، فهمت أنقرة أنّ زمن إيران القديم شارف على الأفول، وأنّه يستحسن بها القفز إلى الأمام لملء الفراغ المقبل.
لم يبقَ من محور المقاومة كلّه إلّا العراق، الذي يبدو أنّه يتهيّأ هو الآخر للتفلّت أكثر من قبضة إيران. وربّما هذا هو المعنى الذي تحمله عودة مصطفى الكاظمي إلى بغداد قبل أيّام بعد أكثر من عامين على تحييده وإبعاده عن المشهد السياسي.
قبل “طوفان الأقصى” بدا أنّ هيمنة إيران على العراق، المتصاعدة منذ سقوط صدّام حسين عام 2003، وصلت إلى ذروتها، من خلال سيطرة “الإطار التنسيقي”، الذي يضمّ الأحزاب الموالية لإيران، على الحكومة الحالية برئاسة محمد شيّاع السوداني.
بين تشرين الأوّل 2021 وتشرين الثاني 2023، نجحت إيران في تحييد كلّ المكوّنات السياسية التي حملت أيّ طموح إلى الاستقلال عن نفوذها داخل العراق، بدءاً من إقصاء مقتدى الصدر بعد فوزه في الانتخابات البرلمانية خريف عام 2023، حين أُحبطت محاولته تشكيل حكومة أغلبيّة وطنية تستثني الميليشيات. انسحب الصدر من العملية السياسية في حزيران 2022، ودخل أنصاره في اشتباكات مع ميليشيات “الإطار التنسيقي” في آب 2022، وهو ما مهّد الطريق أمام وصول السوداني لتولّي رئاسة الحكومة في تشرين الأوّل 2022، مرشَّحاً من قبل القوى الموالية لطهران حصراً. مع استقرار حكومة السوداني، استُكمل مسار تحييد الشخصيات التي تبنّت خطّاً وطنيّاً عراقيّاً، وعلى رأسهم مصطفى الكاظمي، الذي أُجبر على مغادرة العراق بعدما واجه حملة سياسية شرسة تلبس لبوس القضاء والمحاسبة بتهم الفساد. ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، ففي تشرين الثاني 2023، أُزيح محمد الحلبوسي من رئاسة البرلمان، ليكتمل بذلك إحكام “الإطار التنسيقي” قبضته على المؤسّسات العراقية، محقّقاً ما يمكن وصفه بانتصار سياسي حاسم لإيران في بغداد.
مرحلة مختلفة
يشير هذا السياق إلى أنّ عودة الكاظمي تمثّل بداية مرحلة مختلفة، تعكس تراجعاً تدريجياً للهيمنة الإيرانية المطلقة على القرار العراقي، وتتوافق مع مزاج شعبي ضاغط لإنهاء عسكرة الدولة والحدّ من نفوذ الميليشيات، وإن كان ذلك لا يزال بعيداً عن أن يكون قطيعة كاملة مع طهران.
حتّى الرئيس محمد شيّاع السوداني بات مضطرّاً إلى رفع مستوى المناورة بين خدمة المصالح الإيرانية، والتجاوب مع هذه المطالبات الداخلية، وتحقيق مستوى أعلى من السيادة والتوازن في سياسة العراق الإقليمية والدولية.
الحشد الشعبي الذي تأسّس عام 2014 لمواجهة تنظيم داعش، وبات في السنوات الأخيرة الأداة الرئيسية لإيران داخل العراق، تحوّل إلى عنوان لإثارة الجدل الواسع والساخن في العراق. لا يقتصر الأمر على تراجع تهديد داعش، وفقدان الحشد للمبرّرات التي رافقت نشأته، أو تنامي الأصوات الشيعية المطالبة بضرورة ضبطه خوفاً من تحوّله إلى دولة داخل الدولة.
نفّذت هذه الميليشيات، عشرات الهجمات على القواعد الأميركية في العراق منذ بداية الحرب على غزة، وباتت تشكّل مصدر توتّر بين بغداد وواشنطن. ولئن كانت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عازمة على فرض عقوبات جديدة على العراق إذا لم يتمّ ضبط هذه الجماعات، فإنّ حكومة السوداني تجد نفسها في مأزق حقيقي: إمّا الرضوخ للضغوط الأميركية، وهو ما يعني خسارة جديدة تضاف إلى سجلّ إيران، أو الإبقاء على الميليشيات ومواجهة عزلة دولية قد تؤثّر على الاقتصاد العراقي المتعثّر.
ما قد يعزّز الرهان على استفادة العراق من التغييرات العميقة التي أصابت الشرق الأوسط، أنّ هيمنة إيران على العراق في ذروة إمساكها به، تعاني من هشاشة بنيويّة، لأنّها لا تستند إلى توافق وطني حقيقي، بل إلى تحالفات فرضها منطق القوّة والترهيب والتحايل السياسي. فحتّى محمد شيّاع السوداني، الذي وصل إلى رئاسة الحكومة بدعم من “الإطار التنسيقي”، مضطرّ إلى موازنة النفوذ الإيراني عبر الحفاظ على قنوات اتّصال مع الولايات المتحدة، وتعزيز العلاقات مع دول الخليج، وتجنّب استعداء خصوم طهران بشكل مباشر. وعلى الرغم من أنّه منح الفصائل الموالية لإيران مساحة واسعة داخل مؤسّسات الدولة، لم يستهدف التيار الصدري بقمع مباشر، ولم يندفع إلى تنفيذ مطالب إخراج القوّات الأميركية فوراً، بل اختار نهجاً براغماتياً يسمح له بالحفاظ على استقرار حكومته. تعكس هذه التجربة حقيقة أنّ العراق، على الرغم من تغلغل النفوذ الإيراني، لا يزال يمتلك هوامش للمناورة، ستزداد اتّساعاً في ضوء التوازنات الجديدة في المنطقة.
معركة إقليميّة أوسع
في ظروف أصعب ممّا هو قائم حالياً، بدأت بغداد تنتهج سياسة متوازنة بين طهران والعالم العربي، حيث عزّزت علاقاتها مع السعودية، والإمارات، ومصر، وحتى تركيا. وربّما مشروع الربط الكهربائي الخليجي، الذي يهدف إلى تقليل اعتماد العراق على الغاز الإيراني، لتلبية 40% من احتياجاته، هو أحد أبرز الأمثلة على هذا التوجّه.
كما أنّ مشاركة العراق في جهود المصالحة بين السعودية وإيران، كانت واحدة من الإشارات المهمّة إلى محاولة بغداد أن تكون جسراً بين المعسكرين بدلاً من أن تكون تابعاً لأحدهما.
بينما صدم سقوط الأسد طهران، سارعت بغداد إلى إرسال مبعوثين أمنيّين إلى دمشق لفتح قنوات مع النظام الجديد، في حين وجّه وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين دعوة إلى نظيره السوري أسعد الشيباني لزيارة العاصمة العراقية بغداد قريباً، موضحاً أنّ القمّة التي سيحتضنها العراق في أيار المقبل ستشهد توجيه الدعوات إلى جميع قادة الدول العربية، بمن فيهم الرئيس السوري أحمد الشرع.
تلوح في أفق العراق فرصة توسيع علاقاته مع الدول العربية والغربية، والبدء بضبط الميليشيات وإعادة هيكلة قطاع الطاقة لتقليل اعتماده على طهران سياسياً واقتصادياً، وستترجم هذه التوجّهات السياسية في الانتخابات المقبلة.
لا تملك إيران لإجهاض هذه الفرصة إلّا تمكين الأحزاب والميليشيات الموالية لها من إحكام قبضتها أكثر على البرلمان والقضاء، وتعميق فشل الدولة العراقية، بما يمهّد لصدام بين جماعات إيران في العراق وكلّ من الولايات المتحدة وإسرائيل، استكمالاً للحرب التي أعقبت طوفان الأقصى. كما يهدّد هذا السيناريو بتفاقم الأزمات الداخلية، وإشعال احتجاجات شعبية واسعة قد تطيح بالحكومة، وتمتدّ إلى داخل إيران نفسها، لا سيما إذا وجدت إيران نفسها مضطرّة إلى التدخّل المباشر كما فعلت في سوريا.
ما يشهده العراق ليس صراعاً داخليّاً تحت سقف التوازن الإقليمي فيه، بل معركة إقليمية أوسع على موقع العراق نفسه في معادلة النفوذ في المنطقة، بعدما كان ساحة تقاسم نفوذ بين إيران وواشنطن.
نديم قطيش-اساس
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|